خلف الشاشـة

في تلك الليلة, بدأ (مسعود) يشعر أن هناك أشياء غريبة تحدث له, كان وحيداً مثل كل ليلة, والغرفة من حوله صامتة, أحس أنه وحيد أكثر من ذي قبل, لا رفيق له إلا جهاز (التلفزيون), الشي الوحيد الذي يملأ المكان بالأصوات والصور والموسيقى, مدّ مسعود يده وضغط على جهاز التحكم من بعد, إلا أن جهاز التلفزيون تأخر كثيراً حتى تكونت الصورة على شاشته, وظل (مسعود) جالساً ينتظر في صبر, وقد حسب أن التلفزيون قد أصابه العطل, ولكن الصورة ظهرت أخيراً, معتمة وقليلة الإضاءة, حدق مسعود طويلاً قبل أن يتبن تفاصيلها, غرفة ضيقة جدا, عارية من الطلاء, أحجار الجدار واضحة, ولا توجد فيها إلا نافذة واحدة صغيرة وعليها قضبان غليظة, لابد أنها زنزانة في أحد السجون, بالفعل, كان هناك سجين وحيد يجلس منزوياً في أحد الأركان, لابد أن هذا مشهد من أحد الأفلام التي تدور حول السجون, إلا أن(مسعود) كان يريد شيئاً مرحاً جذّاباً, لذلك فقد عاود الضغط على جهاز التحكم من بعد مرة أخرى, ولكنه فوجئ أن الفيلم نفسه والصورة نفسها موجودان على قناة أخرى, ما هذه المصادفة? ضغط مرة ثانية, وثالثة, والصورة نفسها تعود, هل تلف الجهاز? أوشك أن يغلق التلفزيون, ولكن قبل أن يفعل ذلك حدث أمر غريب, نهض السجين الموجود داخل التلفزيون من مكانه, اقترب من الشاشة حتى أصبح وجهه يحتلها وصاح في صوت عال:

- لماذا لا تريد أن تراني?

حدق (مسعود) قليلاً ثم صرخ من الدهشة والفزع, تراجع من أمام الشاشة وهو يهتف: إنه أنا.

أومأ الشخص الآخر برأسه موافقاً وهو يقول له: فعلاً أنت أنا.

هل يعقل هذا? كيف يمكن أن يتشابه غريبان إلى هذه الدرجة, عاد يحدق مرة أخرى, وكأنما قرأ الرجل الآخر أفكاره, فقد قال:

- نحن لسنا غريبين كما تعتقد, نحن الشخص نفسه واسمي (مسعود) أيضاً, كل ما في الأمر أننا في مكانين مختلفين.

قال (مسعود) في صوت متحشرج:

- كيف حدث هذا?

تراجع الرجل ودار قليلاً في الزنزانة كأنه يفكر في إجابة مناسبة, ثم قال بصوت محرج:

- لنقل إنني ارتكبت بعض الأخطاء الصغيرة, بعض الأكاذيب والسرقات والتحايل على الآخرين, وأشياء أخرى من هذا النوع.

نهض (مسعود) وتجوّل هو أيضاً في الغرفة, كأن حيرة الرجل الآخر قد انتقلت إليه, قال في صوت عال:

- كيف إذن تقول إنك أنا, أنا لست مجرما.

قال الرجل الآخر متأفّفاً:

- لا تضع الأمر بهذه الصورة, أنا هو أنت بالإضافة إلى بعض الأخطاء والشرور التي في نفس كل إنسان, على أي حال, أنا في وضع أفضل من الوضع الممل الذي تعيش فيه, أنا أعيش حياة كلها إثارة, على الأقل, فأنا أعرف ماذا يعني السجن, وأعرف قيمة الحرية, وحياتي دائمة التغيير, أما أنت فتعيش يوماً طويلاً مملاً.

ويبدو أن ملاحظة (مسعود) الآخر قد أغضبته كثيراً لأنه مد يده ولمس الشاشة, فاختفت الصورة وأغلق التلفزيون ووجد مسعود نفسه جالساً وحيداً يحيط به الصمت.

هل ما حدث كان حقيقياً أم أنه كان يتخيّل?

نهض إلى الفراش, حاول عبثاً أن ينام وأن ينسى, ولكن الكوابيس أخذت تهاجمه, استيقظ مفزوعاً أكثر من مرة, وجاء الصباح, وهو مازال قلقاً متوتراً.

لا يدري كيف مرّ عليه اليوم, ولا كيف استطاع أن يؤدي عمله, وعندما حان موعد عودته للبيت, كان يسير محنياً كأنه يحمل العالم كله فوق كتفيه, وفي الغرفة جلس صامتاً أمام جهاز التلفزيون, لم يحاول أن يفتحه أو يقترب منه, كان يريد أن يحافظ على توازنه دون أن يختلط به أحد آخر, ولو كان من نسج الخيال, ولكن ما إن تهيأ للنوم حتى فوجئ بضوء يتسرّب للغرفة, وفُتح التلفزيون من تلقاء نفسه, ومن الشاشة أطل عليه وجه مسعود الآخر, كان غاضباً حانقاً وهو يهتف فيه: ما هذا... هل تحاول الهرب مني?

أحسّ (مسعود) بالحرج, فقد كان هذا ما يحاوله فعلاً, وقال الرجل:

- لن تستطيع الهرب على أي حال, لأنه أنا أنت, لذلك كنت أعتقد أنك سوف تأخذ مني موقفاً أفضل من هذا. وكان على مسعود أن يقول شيئاً ما فقال له:

- لا أحب أن أراك في هذا المكان.

قال الرجل الآخر في قوة ولهجة مقنعة:

- وما عيب هذا المكان, إنه مليء بالإثارة أكثر بكثير من هذا المكان الممل الذي تعيش فيه, في كل مساء أجتمع أنا وزملائي السجناء لأسمع منهم العديد من القصص المثيرة, كما أننا نأكل بشكل جماعي حيث يكون الأكل أشهى, أضف إلى ذلك الخروج للتريّض في فناء السجن ومقابلة وجوه جديدة كل يوم.

وفوجئ (مسعود), قارن ما يقوله مع حياته الباردة اليومية التي لا توجد بها أي تفاصيل, كان يأكل وحيداً وينام وحيداً ولا يتبادل الحديث مع أحد, ولكن هل يمكن أن تكون حياة السجن بهذه الإثارة حقّا?

نظر (مسعود) إلى الآخر وهو يقول: هل ما تقوله حق? لا أصدق ذلك.

قال الآخر باللهجة المقنعة نفسها: سأثبت لك كلامي بالدليل القاطع, سوف أجعلك تحل محلي, بينما أحل أنا محلك, ولكن لمدة قصيرة فقط, فأنا لا أطيق نوع الحياة التي تحياها, كل ما في الأمر أنني أريد أن أقدم لك دليلاً على صدقي وصداقتي.

وسكت مسعود مفكّراً, هل يقبل هذا العرض المثير? هل يغيّر حياته الرتيبة هذه ولو قليلاً? ماذا سيخسر غير هذه الأيام الطويلة المتشابهة? قال الرجل متعجّلاً:

- هيا قل رأيك, لن أبقى هنا طوال الليل, فأنا أستعد للسهر مع زملائي السجناء.

قال (مسعود) في تردد: لمدة قصيرة فقط.

قال الآخر: أنا أحرص منك على قصر المدة فلن أطيق الجلوس طويلاً في غرفتك المعتمة هذه.

وصمت مسعود, ولكنه عندما رأى الآخر وهو يمد يده ليطفئ التلفزيون هتف في سرعة: قبلت.

وفي الحال, اهتزت الغرفة, وامتلأت بأضواء كثيرة, وأحس (مسعود) أن شاشة التلفزيون تتسع وتتمدد لتستدير حوله, تأخذه في أعماقها, شعر أنه يتحرر من كل القيود التي كبّلته طويلاً, يتحرر من الزمان والمكان ومن كل شيء, وازداد الضوء فأغمض عينيه, وعندما فتحها وجد نفسه داخل الزنزانة, وكان مسعود الآخر جالساً هناك على المقعد نفسه الذي طالما جلس عليه طويلاً, كانت الزنزانة بالغة الرطوبة وجدرانها خشنة, أدرك فجأة أنه قد أصبح مسجوناً بالفعل, وحين تطلع إلى الآخر, فوجئ به وهو يضحك منه في سخرية وهو يقول له:

- أيها الأحمق كيف صدقتني? ألم أقل لك إنني بارع في التحايل وخداع الآخرين, عليك أن تتلقى عقاب غبائك إذن.

وأغلق جهاز التلفزيون وفوجئ (مسعود) بالظلمة تحيط به وتخفيه تماماً عن كل شيء.

 

 

 

 


 

محمد سيف