بيتنا الأرض

 

لوحات ملونة بلا ألوان

قال لي: اقترب وانظر.. ماذا ترى?

اقتربت ونظرت, فرأيت لوحة تجريدية رائعة الألوان, لم أر ما يضاهي جمال وتناسق ألوانها في لوحات أي من الفنانين التجريديين العالميين الذين رأيت أعمالهم في المعارض ومتاحف الفن أو في (الكتالوجات) الملونة التي تصدر مطبوعة عن أعمالهم.

قلت وقد ابتعدت عن الميكروسكوب ( المكبّر ) الذي دعاني للنظر من خلاله إلى اللوحة: ألوان رائعة وتناسق بديع.

علّق على كلامي مبتسما: لا توجد أي ألوان في هذه اللوحة الملونة!

حيرني حديثه, لكنني لم أشكك في صحته, فهو عالم في الأحياء, ولابد أنه يعني ما يقوله. ولما وجدته مستمرا في ابتسامته وهو ينظر إليَّ في تحدٍ, حاولت أن أصل بنفسي إلى حل هذا اللغز.

رفعت عدسة الميكروسكوب الشيئية قليلا, لأعرف ما يوجد على الشريحة التي كانت تحتها, ورأيت القطعة الدقيقة التي لا تتجاوز مساحتها عدة ملليمترات مربعة, وقلت : هذه قطعة من جناح فراشة, وهي ملونة.

رد عليّ وقد تلاشت ابتسامته, وكان يتكلم بجدية العالم :(هي قطعة من جناح نعم, لكنه ليس جناح فراشة, وهذا خطأ شائع, فالناس لايفرقون بين الفراشات وأبي دقيق لأنهما قريبان جدا من بعضهما, والفروق بينهما قليلة لكنها واضحة, فالفراشات ـ على عكس مايعتقد كثيرون ـ ألوانها غالبا باهتة وغير متعددة أما (أبو دقيق) فأجنحته ألوانها قوية ومتعددة, والفراشات تظهر غالبا في الليل, أما (أبو دقيق) فهو يظهر في النهار ويظن الناس أنه فراشة).

قلت : إذن مارأيته هو جزء من جناح (أبو دقيق), وهو ملون, فكيف تقول إنه بلا ألوان ?

قال العالِم وهو يدور حول الميكروسكوب : (أبو دقيق) وأقاربه من الفراشات كلاهما من رتبة الحشرات المُسمّاة (حُرشفية الأجنحة), وهي تضم حوالي مائة ألف نوع, لأن أجنحتها مغطاة بقشور دقيقة, والجناح نفسه شفاف, وهذه القشور الدقيقة أو الحراشيف شفافة أيضا, وهي مرتبة في صفوف متراصة كما في قشور الأسماك, وقد يقترب عددها من عشرين ألف حرشفة في السنتيمتر المربع عند أبي دقيق, ومن هذه الحراشيف اكتسب أبو دقيق اسمه, لأننا عندما نمسكه ينفض بين أصابعنا دقيقا من هذه الحراشيف, وهذه الحراشيف الشفافة هي التي تكسب أجنحته ألوانها العديدة البديعة.

كدت أن أستوقف عالِم الأحياء لأسأله كيف تمنح الحراشيف الشفافة جناح أبي دقيق ألوانه العديدة, لكنه كأنما عرف سؤالي وأراد ان يجيب عليه, قال مواصلا حديثه : (نحن نعرف تجربة المنشور الزجاجي الشفاف, وكيف يحلل شعاع الضوء الساقط عليه إلى ألوان عديدة هي ألوان الطيف, الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر والأزرق والنيلي والبنفسجي, وهذا بالضبط ماتفعله الحراشيف على جناح أبي دقيق, فهي تحلل ألوان الضوء كما يفعل المنشور الزجاجي, ويسمح ترتيبها المتنوع على الأجنحة بتكوين انعكاسات لألوان متنوعة, تصنع أمام أعيننا تلك الألوان المبهجة التي نراها في أجنحة أبي دقيق الذي نرى أفراده, وجماعاته أحيانا, تطير رائعة تحت شمس النهار, في الحقول والحدائق).

سكت عالم الأحياء, فوجدت نفسي أميل على الميكروسكوب ( المكبّر ) لأعاود النظر, مدهوشا أكثر, إلى تلك اللوحة الملونة الرائعة, المرسومة بلا ألوان!

 


 

محمد المخزنجي