قدوتي العلمية

 

 


قدوتي العلمية

رسوم: ممدوح طلعت

الطبيب الفاضل علي بن العباس

فجأة سقط الرجل العجوز فوق الأرض.

واندهش الصغير (علي), ورأى الرجال يسرعون نحو العجوز, ويحاولون إسعافه, ردد أحدهم: الطبيب.. ابحثوا عن طبيب.

لكن الطبيب كان يسكن مكانًا بعيدًا, ولم يحضر إلا بعد ساعات, كان العجوز قد فارق الحياة, وسمع الصغير (علي بن العباس) شخصًا يقول:

- إنها نوبة.. أصابت الرجل, لو كان هناك طبيب, لأسعفه.. لكنه قضاء الله نفذ.

وتخيل (علي) نفسه طبيبًا وهو يحاول إسعاف العجوز, وينقذه من النوبة, صحيح أنه قضاء الله, لكن الله هو الذي منح العلم للإنسان, كي يعالج الأطباء المرضى.

حدث هذا في قرية صغيرة, من قرى منطقة (الأهواز) الفارسية, في القرن الثامن الميلادي, وها هو (علي) في العاشرة من العمر, قرر أن يكون طبيبًا وأن يكون دائمًا إلى جوار المرضى, في أي مكان.

وانتقلت الأسرة إلى بغداد, كي يتعلم الطب: ويتفوق فيه, وفي بغداد استكمل دراسته, واستطاع أن يستوعب الكثير من معارف عصره, إلى أن صار طبيبًا, وعندما بلغ الحادية والعشرين من العمر, قال لأبيه:

- شكرًا يا أبي.. لما فعلته معي, هل تأذن لي أن أبحث عن مرضاي في كل مكان, إنهم أيضًا يبحثون عني.

لم يكن مشهد العجوز الذي لم يسعفه أحد يفارقه, فظل ينتقل بين القرى, والمدن, والبلاد, يعالج المرضى ولا يأخذ أجرًا, ومن خلال هذه الرحلات الطويلة اكتسب (علي بن العباس) الكثير من الخبرات.

كان يأخذ أجره فقط من المرضى القادرين, فيستطيع أن يدبر حياته, وسفره الذي لم ينقطع, ومن خلال الرحيل المستمر, استطاع أن يلملم المعلومات, الواحدة تلو الأخرى, من كل مكان, وقرر أن يدونها في أوراقه الكثيرة.

فجأة, انتبه (علي بن العباس) إلى أن عليه أن يدون خبرته في كتاب ضخم, يستفيد منه زملاؤه, دارسو الطب, والعلماء, وأن يكون هذا الكتاب بمنزلة (كامل الصناعة الطبية).

وعكف على تأليف الكتاب, سنوات طويلة, وكان كلما وضع بابًا من الأبواب أحس أنه ناقص, فيتركه فترة من الوقت, كي يعود إليه مرة أخرى لاستكماله.. وهو يقول:

- لا يوجد ما هو كامل في العلم.. خاصة الطب.

واشتهر الكتاب تحت اسم (الملكي) على الرغم من أن عنوانه هو (كامل الصناعة الطبية), وكان كتابًا ضخمًا للغاية, اشتمل على جزءين الجزء الأول مقسم إلى عشرة أقسام من الأمزجة والطبائع, والأخلاط.. ثم هناك أقسام عن الأغذية, وهناك ستة أقسام عن أسباب الأمراض وأعراضها.

وظهر الكتاب, ليكون زادًا لكل راغب في التعرف على كل كامل في صناعة الطب لدرجة أن العالم العربي الكبير (القفطي) قال عن (علي بن العباس):

- إنه طبيب فاضل.. كامل مثل كتابه.

كان المؤلف قد وضع كل ما يخص الطب في كتابه, ابتداء من نصائحه للطلاب الجدد الذين يدرسون هذا العلم العظيم, ومن هذه النصائح, أنه على الطالب ألا يبرح البيمارستان (المشفى) في أغلب أيام الدراسة, وأن يستفيد من خبرات الأساتذة, وألا يكف عن القراءة.

وقد وضع (علي) ما يسمى بأسس قواعد الصيدلة, التي لاتزال تطبق حتى الآن, في كليات الصيدلة, وفي الحياة العامة.

تكلم أن هناك أدوية من النباتات وعصائرها, ومن الحبوب, والبذور, ومن بعض أوراق النبات, مثل الكافور, والخردل, ومن الصموغ.

وهناك أدوية تؤخذ من الطين والحجارة, والملح, وبعض المعادن.

كما أن هناك أدوية تؤخذ من منافع أعضاء الحيوان, وحسب (بن العباس), فالأدوية يمكن أن تقسم حسب السبب الذي أخذت من أجله, أو حسب أوزانها الموصوفة للمريض, أو حسب منافعها, ومدة تناولها.

وظل كتاب (الملكي) هو المصدر الوحيد في عالم الطب, يؤخذ منه في كل أنحاء البلاد, واستمر الحال قرابة قرن ونصف القرن من الزمان, إلى أن ظهر كتاب (القانون في الطب) للشيخ ابن سينا في أوائل القرن الحادي عشر, فترك الناس كتاب (الملكي) إلى كتاب (القانون).

لكن, بالرغم من ذلك, فإن أحد الباحثين الكبار.. قال:

- (الملكي) في العلم أبلغ, و(القانون) في العلم أثبت.

عندما ظهر كتاب (القانون) كان كتاب (الملكي) قد وجد طريقه إلى العديد من اللغات كمصدر مهم في علم الطب.. خاصة في إيطاليا.

 

 


 

محمود قاسم