النهر صديقي


النهر صديقي

رسوم: صفاء نبعة

ثمن العصا!

في زمان بعيد, كان يعيش في إحدى القرى صبي يزرع الأرض مع أبيه, ويرعى الحيوانات, ويعرف كيف يمسك بالفأس والمنجل.

وفي ذلك الزمان, كان الفرسان يمرون بالقرية في طريقهم إلى القلاع والحصون, فينظر الصبي إلى سيوفهم وجيادهم, ويحلم بأن يكون فارسا مثلهم, له سيف وجواد.

وذات يوم, كان الصبي الصغير يجلس مع أبيه في وقت الفراغ من العمل.

فقال له:

- يا أبي, أنا أريد أن أكون فارسًا, أريد أن أعرف كيف أبارز بالسيف, وأركب الجياد.

فقال له والده:

- يا ولدي, نحن فلاحون, نعرف كيف نمسك بالفأس والمنجل, لا بالسيف والخنجر. ولكني أستطيع أن أعلمك كيف تمسك بالعصا, وتدافع بها عن نفسك وعن كل ضعيف, كفارس حقيقي. ولكن بشرط واحد.

قال الصبي: وما هو يا والدي?

قال الوالد: أن تدفع ثمن العصا.

قال الصبي: وما ثمنها?

قال الوالد: غدا أقول لك.

وفي اليوم التالي, دخل الأب إلى ساحة البيت وفي يده عصا طويلة غليظة, من الحطب الشديد, وقال لابنه:

- يا ولدي: هذه هي العصا. وثمنها يا ولدي هو أن تعرف كيف تدافع بها عن نفسك وعن كل ضعيف. حينئذ, تصبح هذه العصا ملكًا لك, وتستطيع أن تحتفظ بها بقية عمرك.

ومرت الأيام, وأصبح الصبي الصغير شابًا قويًا. ولكنه لم ينس أبداً ما قاله له أبوه يوم أن سلمه العصا لأول مرة:

(إن ثمن العصا هو أن تعرف كيف تدافع بها عن نفسك وعن كل ضعيف).

وكان الشاب يمسك بعصاته ويقول (متى تصبح هذه العصا ملكًا لي, متى أدفع ثمنها?).

وذات يوم, كان الشاب يسير خارج القرية, بين الحقول وأشجار البرتقال والنخيل, حينما لمح رجلاً غريبًا يتسلل كاللصوص بين الأشجار. كان الرجل عملاقًا ضخم الجثة, يحمل بين يديه عصا طويلة غليظة. وتبع الشابُ العملاقَ الغريبَ في حذر, وهو يتوقع الشر. ومن بعيد بدا شيخ كفيف تقوده صبية صغيرة. وحينئذ, انقض العملاق على الصبية الصغيرة يريد أن يخطفها.

فظهر له الشاب ملوحًا بعصاه.

كان العملاق ضخمًا, شديد القوى, ولكنه لم يكن يعرف كيف يمسك بعصاته بمهارة, وكيف يضرب بها بسرعة. وفوجئ بعصا الشاب تنهال عليه بقوة وسرعة, حتى فرّ هاربًا.

وشكر الشيخ الكفيف الشاب قائلاً له:

- شكرًا لك يا بني, لقد أنقذت حفيدتي الصغيرة, وأنقذتني من هذا اللص.

فقال له الشاب:

- بل الشكر لك أنت أيها الشيخ الطيب. لقد أتحت لي أن أدفع ثمن هذه العصا, وأن تصبح أخيرًا ملكًا لي.

العجوز ذات الوجه الجميل

في قرية صغيرة بجانب البحر, كانت تعيش امرأة عجوز جميلة الوجه. كان وجه العجوز يبعث السعادة في قلوب كل أهل القرية الصغيرة, ويجعل الفتيات يلتففن حولها, ويقلن لها:

- وجهك جميل يا أمي العجوز, جميل مثل وجه فتاة صغيرة جميلة, ما الذي يجعل وجهك جميلاً هكذا يا أمي?

وكانت العجوز تبتسم لهن, وتسير إلى بيتها, مع عنزتها ودجاجاتها, وعند المغيب تجلس بجانب البرتقال في حديقتها, فيحمل النسيم لها رائحة البرتقال الجميلة, فتفرح.

ومن بين فتيات القرية جميعًا, كانت هناك فتاة جميلة, تحلم أكثر من كل الفتيات أن يظل وجهها جميلاً طوال عمرها, مثل العجوز جميلة الوجه. وفي كل يوم كانت الفتاة الصغيرة تذهب إلى حديقة العجوز, وتجلس أمامها, تنظر إلى وجهها الجميل, دون أن تتكلم.

وذات يوم قالت لها العجوز:

- يا فتاتي الجميلة.. أنت تريدين أن تعرفي لماذا ظل وجهي جميلا هكذا رغم أنني عجوز عشت عشرات من السنين.

قالت الفتاة:

- نعم يا أمي.

قالت العجوز:

- حسنًا يا بنيتي, سأقول لك, ولكني أريد أن أحلب هذه العنزة الجميلة, لنشرب من لبنها البارد اللذيذ.

وعلّمت العجوز الفتاة كيف تحلب العنزة. وتركت اللبن حتى يبرد. ثم شربتا منه. وكان اللبن البارد لذيذًا, فشعرت كل منهما بالفرح, وضحكتا, فبدا وجه كل منهما أكثر جمالاً.

وفي اليوم التالي, علّمت العجوز الفتاة كيف تعتني بالدجاج, وتجمع البيض. وأكلتا معًا بيضًا مسلوقًا طازجًا. وشعرت كل منهما بالفرح, وضحكتا.

وفي اليوم الثالث, علمت العجوز الفتاة كيف تطحن حبات القمح, وتصنع منها الخبز. وأكلتا معًا خبزًا ساخنًا شهيًا. وشعرت كل منهما بالفرح, وضحكتا.

وهكذا كانت العجوز تُعلم الفتاة كل يوم كيف تعتمد على نفسها, وتفرح بما تصنع يداها. إلى أن جاء يوم مرضت فيه العجوز, وجلست الفتاة الصغيرة بجانبها على فراش المرض, فقالت لها العجوز:

- والآن يا فتاتي الجميلة, هل عرفت لماذا ظل وجهي جميلاً حتى الآن?

قالت الفتاة:

- نعم يا أمي, لقد ظل وجهك جميلاً لأنك تعرفين كيف تعتمدين على نفسك, ولأنك تعرفين كيف تفرحين بما تصنع يداك. لقد عرفت يا أمي.. لقد عرفت.

وماتت العجوز ذات الوجه الجميل. ولكن بعد عشرات السنين كانت تعيش في القرية عجوز أخرى ذات وجه جميل. تبتسم, فتبعث السعادة في قلوب أهل القرية الصغيرة. وتلتف حولها الفتيات يسألنها:

- ما الذي يجعل وجهك جميلاً هكذا يا أمي?

النهر صديقي!

في قديم الزمان..

كان الإنسان يصادق الأشياء التي يعيش بجانبها.

وكانت الأشياء تبوح لأصدقائها بأسمائها الحقيقية, ليعيشوا معًا أصدقاء إلى الأبد.

وفي ذلك الزمان القديم, كان هناك صبي يتيم يعيش وحيدًا بجانب النهر. وكان الصيادون الذين ينزلون كل يوم إلى النهر بقواربهم يسمونه (ابن النهر), فلم يكن أحد منهم يعرف أباه أو أمه. فقط ذات يوم وجدوه بجانب النهر. وفي كل صباح, كانوا يشاهدونه وهو يقفز إلى المياه الزرقاء ليسبح, ثم يعود إلى الشاطئ وبيده سمكة من أسماك النهر, هدية من صديقه الوحيد.

ومرت الأيام, والصبي اليتيم يعيش سعيدًا بجانب صديقه النهر, يأكل من أسماكه, ويشرب من مياهه الزرقاء الصافية, وينام هانئًا على ضفته.

حتى جاءت إحدى ليالي الشتاء الباردة, وعلى ضفة النهر نام الصبي اليتيم وجسده العاري يرتجف.

وفي الصباح, ارتفعت شمس النهار في السماء, ولكن الصبي اليتيم لم يستطع أن يقوم من نومه, لم يستطع حتى أن يصيح طالبًا النجدة. وشعر النهر بالقلق على صديقه, فامتدت موجة من أمواجه حتى لامست جبهة الصبي, وحينما أحس النهر بحرارة صديقه المرتفعة, أدرك أنه مريض, حينئذ, همست موجة النهر باسم النهر الحقيقي في أذن الصبي اليتيم, وقال له النهر:

- الآن, بعد أن عرفت اسمي الحقيقي, تستطيع أن تعيش في مياهي كما تعيش على سطح الأرض, دون أن تصاب بسوء.

وسحب النهر صديقه المريض إلى أعماقه, وهناك تقدمت سمكة عجوز من أسماك البلطي الحكيمة, وأطبقت بفمها على يد الصبي, فامتصت الحرارة من جسمه, حتى ارتدت صحته إليه, وعاد سليمًا معافى.

ونظر الصبي إلى ما حوله, فأدرك أنه في أعماق النهر. ورأى الأسماك من كل نوع تحيطه وترحب به, فشعر بسعادة لم يشعر بها أبدًا من قبل.

وشكر صديقه النهر, وقضى اليوم في صحبة الأسماك بين نباتات وأشجار الأعماق, وحين أخذت الشمس في المغيب, وبدأت مياه النهر الزرقاء تفقد ضوءها, عاد الصبي إلى الشاطئ من جديد, وهو يردد الاسم الحقيقي لصديقه النهر, حتى لا ينساه أبدًا.

وعلى ضفة النهر نام, و

محمد عبد الرحمن آدم


هو يشعر بسعادة غامرة, كمياه النهر الزرقاء الصافية.

 

 

 


 


محمد عبد الرحمن آدم




غلاف هدية العربي الصغير