العالم يتقدم


العالم يتقدم

رحلة إلى أعماق الكون

هل تعلم أن هناك عيناً هائلة في الفضاء من صنع الإنسان, ترصد الكون وتسجل أسراره المثيرة? إنها التلسكوب الفضائي (هابل) الذي أطلق في عام 1990 إلى ارتفاع يبلغ نحو ستمائة كيلومتر في الفضاء, واستطاع خلال هذه السنوات حتى الوقت الحاضر, أن يكتشف العديد من الأسرار الكونية التي تتعلق بالكواكب والنجوم والمجرات وغيرها.

ولكن هذا التلسكوب الفضائي أصبح عتيقًا ومتقادمًا حتى اضطر العلماء لتغيير عدساته, فأصبح يؤدي عمله وكأنه يرتدي (نظارة طبية)! ومن ثم صمم العلماء تلسكوباً فضائيًا آخر, لكي يواصل الاستكشافات العلمية التي بدأها تلسكوب (هابل), الذي أعطانا إجابات رائعة, وفي الوقت نفسه طرح أسئلة جديدة تتطلب إجاباتها إرسال تلسكوب حديث مختلف وأكثر فاعلية وبتقنيات حديثة, إن التلسكوب الفضائي الجديد أكثر تطورًا - يعكس التقدم العلمي خلال هذه الفترة - أطلق عليه (تلسكوب (جيمس ويب) الفضائي), تيمنا باسم مدير وكالة (ناسا) الأمريكية في عام 2002, وقد تقرر إطلاق هذا التلسكوب في أغسطس عام 2011, وسوف يتم تركيبه وتشغيله بتعاون مشترك بين وكالة الفضاء الأوربية ووكالة أبحاث الطيران والفضاء الأمريكية (ناسا).

الانفجار العظيم:

والمهمة الأساسية لتلسكوب (جيمس ويب) الفضائي هي فحص بقايا الانفجار الأعظم - الذي رافق خلق الكون منذ نحو اثني عشر ألف مليون سنة - وذلك برصد ما يصدر عن هذه البقايا الكونية من الأشعة تحت الحمراء. والأشعة تحت الحمراء هي أشعة غير مرئية, وأهم خصائصها نقل الطاقة الحرارية, إذ أنها تُمتص بنسبة كبيرة في كثير من المواد, فتستنفد طاقتها في شكل حرارة يمكن رصدها ومن ثم تستخدم في التصوير في الظلام خاصة في الدراسات الفلكية.

وبسبب القدرات الفائقة للتلسكوب الفضائي الحديث (جيمس ويب) في رصد الأشعة تحت الحمراء, فإنه يمكن التعرف على حال الكون في وقت مبكر جدًا من نشأته, بأكثر مما هو متاح حاليًا. ولتحقيق ذلك, فإن هذا التلسكوب يستخدم أجهزة ذات حساسية فائقة غير مسبوقة, وهي تتطلب أن يكون التلسكوب الفضائي بأكمله باردًا للغاية (نحو 228 درجة مئوية تحت الصفر) ومن ثم يتم حجب كل المصادر الرئيسية للإشعاعات المزعجة التي تتدخل في أرصاده وتشوش عليها (مثل أشعة إكس والأشعة فوق البنفسجية والضوء المرئي...), والقادمة غالبًا من الشمس, والتي تسبب (تسخين التلسكوب). وليتحقق هذا الهدف, سوف يصطحب التلسكوب (جيمس ويب) حاجبًا للشمس, عبارة عن طيات مروحية معدنية ضخمة تنفتح في الفضاء لحجب الأشعة غير المرغوب فيها.

أبعد من الكون:

وقد صمم التلسكوب الفضائي (جيمس ويب) لكي (يرى) أعماقًا أبعد من الكون بواسطة أجهزته البالغة الدقة والمجهزة جيدًا لاستقبال الأشعة تحت الحمراء, ومن ثم يستطيع دراسة تكوين الكواكب والنجوم والمجرات في مراكز سحب الغبار الكونية الكثيفة التي لا تراها عيوننا, والتي تطلق إشعاعات مختلفة - ومنها الأشعة تحت الحمراء - يمكنها النفاذ من هذه السحب. ومن خلال مراقبة انبعاث الأشعة تحت الحمراء هذه, يمكن للتلسكوب الفضائي (جيمس ويب) التغلغل في سحب الغبار الكوني, والتعرف على العمليات المؤدية إلى نشأة الكواكب والنجوم والمجرات, وكذلك إنتاج النجوم للعناصر, وقياس هندسة الكون وتوزيع المادة المظلمة الخفيّة التي تكوّن معظم الكون, وغير ذلك من الأبحاث الكونية.

يتطلب التلسكوب المستقبلي (جيمس ويب) مدارًا بعيدًا في الفضاء لأسباب عدة, إذ أنه سوف يرصد أساسًا الأشعة تحت الحمراء الصادرة من أجرام فضائية خافتة للغاية, ولهذا تحجب الإشعاعات الصادرة من الشمس والأرض والقمر حتى لا تشوش على أجهزته, ولكي ينجح ذلك, يجب أن يوضع هذا التلسكوب الفضائي في مدار معين, بحيث تصبح تلك الأجسام الثلاثة في الاتجاه نفسه تقريبًا, وأكثر النقاط ملاءمة لهذا الغرض هي نقطة (لا جرانج). ونقطة (لا جرانج) منطقة مستقرة في المجال التجاذبي المحيط بالشمس والأرض, وتبعد عن الأرض بمسافة تبلغ حوالي مليون ونصف مليون كيلومتر, وتسمح ظروف درجة الحرارة الباردة والثابتة - عند هذه النقطة - لتلسكوب (جيمس ويب) بإجراء أرصاد فائقة الحساسية للأشعة تحت الحمراء, وعلى الرغم من هذا الارتفاع الهائل, فإن أجهزته يمكنها الاتصال بسهولة بالمحطات الأرضية لتلقي التعليمات وإرسال الصور.

وتبلغ كتلة التلسكوب (جيمس ويب) حوالي ستة آلاف ومائتي كيلوجرام على الأرض, أما في مداره حول الأرض, فلن يزن شيئا على الإطلاق, بسبب انعدام الوزن في الفضاء الخارجي. وأكبر جزء في هذا التلسكوب, سوف يكون حاجزه الشمسي الذي يجب أن يتمكن من تغطية المرآة الرئيسية المنتشرة بأكملها, وأيضًا البرج الذي يمسك بمرآة ثانوية تساعد في التقاط الأشعة تحت الحمراء, وتبلغ أبعاد الحاجز الشمسي مثل مساحة ملعب التنس.

النقاء الفائق:

ويسمي الفلكيون وضوح الصور الملتقطة (النقاء الفائق) وسوف يبلغ هذا النقاء الفائق لتلسكوب (جيمس ويب) أقصى مدى, حتى أنه يمكن لكاميراته قراءة المكتوب على عملة معدنية من على مسافة أربعين كيلومترًا أو رؤية تفاصيل ملعب كرة قدم من على بعد يصل إلى خمسمائة وخمسين كيلومترًا. وسوف يرسل هذا التلسكوب البيانات العلمية إلى مراكز المتابعة على الأرض, باستخدام إرسال لاسلكي عالي التردد, وسوف تستقبل هوائيات لاسلكية جبارة تلك الإشارات ثم ترسلها إلى معهد علوم تلسكوبات الفضاء بولاية (ميريلاند) بالولايات المتحدة الأمريكية.

سوف يكون التلسكوب الفضائي (جيمس ويب) قادرًا على كشف الوجود المحتمل للكواكب التي تدور حول نجم ما من واقع الأشعة تحت الحمراء التي تصدر عنها, كما أنه يستطيع أن (يرى) مباشرة الضوء المنعكس من الكواكب البالغة الضخامة - على الأقل في حجم كوكب المشتري - بل ويتمكن من رصد الكواكب الوليدة أثناء نشأتها وهي مازالت بالغة السخونة, وسوف يتم إطلاق التلسكوب الفضائي (جيمس ويب) من الأرض, بواسطة صاروخ جبار لوضعه في مداره, ويقدر له أن يعمل لمدة عشر سنوات.

 

 


 


رءوف وصفي