البقرة اللاجئة

البقرة اللاجئة

أثناء زيارته لجمهورية البوسنة والهرسك, حلّ خضور ضيفاً على بيت العجوز الطيب حاجي مرادفتش في قرية فوينتسا الجميلة. تقع البلدة في ظلال جبال خضراء رائعة تغطي قممها الثلوج البيضاء, وفي الوادي الأخضر بين الجبال, تتناثر بيوت القرية ذات السقوف المغطاة بالقرميد الوردي. خرّبت الحرب التي أشعلها المتعصبون الصرب كثيراً من بيوت القرية. لكن بعد أن حلّ السلام, أصلح الناس بيوتهم وعادوا يزرعون حقولهم ويرعون بساتينهم من جديد.

تعوّد خضور خلال إقامته في فوينتسا أن يستيقظ مبكّراً كأهل هذه البلدة الجميلة. يتمشى في حديقة البيت ليتنفس من هواء الصباح المنعش, ويقطف الفاكهة ليأكلها طازجة من شجر الحديقة.

وفي بعض الأحيان, كان يذهب إلى أحد الينابيع المتدفقة من جوانب الجبل القريب. يرتوي من المياه الصافية العذبة, ويمتّع نظره برؤية الماء المتفجّر من بطن الجبل. وانتبه خضّور إلى بقرة كانت تأتي كل صباح وتقف وراء سياج الحديقة وتنادي (عا. عا. عا).

في البداية ظن خضور أن البقرة ملك لحاجي مرادفتش, كان العجوز الطيب يسمع نداءها فيسرع ليفتح لها باب السياج ويقودها إلى الحظيرة وراء البيت. لكن لفت نظر خضور أن البقرة كانت بعد ذلك ترجع من حيث أتت, وكان يراقبها وهي تبتعد على طريق القرية الرئيسي حتى تختفي وراء التلال الخضراء. فسأل عنها مضيفه العجوز.

تنهّد حاجي مرادفتش وأغمض عينيه كمن يتذكر أشياء مؤلمة. فتح عينيه الخضراوين العجوزين وارتعشت ملامح وجهه المليء بالغضون, وارتجف صوته وهو يحكي: (أثناء الحرب المجنونة لم يترك المتعصّبون أحداً ولا شيئاً إلاّ آلموه بعدوانهم. بترت قذائف مدافعهم جذوع الشجر, وبثوا الألغام وسط خضرة البساتين والحقول. وأطلقوا النار على البشر وعلى الحيوانات أيضاً. وكانت هذه البقرة أحد الناجين من مذبحة أقامها المتعصبون لسكان القرية المجاورة).

سكت العجوز طويلاً ثم تغيّرت ملامحه الحزينة, بدا مسروراً هذه المرة وهو يواصل الحكاية: (بعد أيام من الضياع بين الجبال, وصلت إلينا البقرة الهاربة من المذبحة. كان قصف المتعصبين لقريتنا أقل, وكنا نحاول الاستمرار في الحياة تحت القصف. نزرع ما نأكله ونطعم بقرتنا لتستمر في إعطائنا الحليب. ووجدت البقرة اللاجئة بقرتنا تأكل في الفناء, فانضمت إليها, كانت ضامرة وجائعة فانهمكت في الأكل بنهم. وأوسعت لها بقرتنا المكان حتى تشبع, كأن الأبقار يحس بعضها ببعض وتتعاطف مع آلام بني جنسها.

البقرتان صديقتين, وقبلت أنا لجوء البقرة إلى حظيرتنا حتى تنتهي الحرب ويظهر صاحبها.

نحن قرويون ولا يتوه أحدنا أبداً عن معرفة بقرته, حتى لو كانت بين مئات الأبقار التي تشبهها, والأبقار أيضاً تعرفنا وتألفنا كأطفالنا).

بدت ملامح السرور والدهشة واضحة في وجه العجوز الطيب, توقف قليلاً عن الكلام ثم عاد لإكمال الحكاية بصوت مبتهج: (مع حلول السلام, عاد الناس إلى بيوتهم في القرية المجاورة, وذهبت بالبقرة اللاجئة إلى هناك, إنها لم تنس أبداً حظيرتها وصاحبها الأصلي. اندفعت تجري عندما وصلت إلى بيت صاحبها, توقفت أمام باب البيت وبدا أنها تنادي: (عا. عا. عا. عا), وخرج صاحبها مهللاً وكأنه عرف صوتها من وراء الباب. كان يعرج لأن المجرمين أصابوه بطلقة في قدمه وهو يفر يوم المذبحة.

وأسرع رغم عرجه, وتعلق بعنق بقرته وراح يعانقها ويقبّلها بين عينيها. كانت تهش بذيلها مسرورة, لكن تبيّن أنها لم تبق مسرورة تماماً فيما بعد).

هز جاجي مُرادفتش رأسه ورفع حاجبيه الأشيبين الكثيفين متعجّباً, وراح يكمل الحكاية: (باتت البقرة في بيتها الأصلي أول ليلة في هدوء, لكنها في الصباح بدت قلقة, تضرب الأرض بأظلافها وتصيح كأنها تبكي, وعندما حاول صاحبها أن يحلبها, لم تستسلم له ولم تعطه لبناً.

ظلت على هذه الحال ثلاثة أيام, وفي اليوم الرابع, تسللت من حظيرتها وسارت أربعة كيلومترات حتى وصلت إلينا. التقت ببقرتنا وكانت البقرتان فرحتين كصديقتين من البشر تلتقيان بعد فراق. وبعد ساعة أمضتاها معاً, أدهشتنا البقرة الزائرة بانسحابها. عادت راجعة إلى صاحبها وحظيرتها القديمة. وعرفت من صاحبها أنها كانت تستسلم ليديه بعد عودتها من كل زيارة. تتركه هادئة يحلبها. وتدرّ بين يديه لبناً دافئاً غزيراً).

أنهى عجوز فوينتسا الطيب حكايته عن البقرة اللاجئة, وذهب لصيد بعض أسماك التروت من غدير الماء الصافي في سفح الجبل. دعا خضور ليرافقه في رحلة صيد السمك, لكن خضور اعتذر له. كان خضور مشغول الخاطر بأخبار المذابح التي يرتكبها الاسرائيليون في فلسطين المحتلة ضد أطفال الحجارة. وكان يتعجّل العودة لينضم إليهم أو يساعدهم. كان يفكر في أن للمتعصبين المجرمين صفات واحدة عنوانها قتل البشر والحيوان والشجر. حدث هذا في مذابح البوسنة وحدث ويحدث على أرض فلسطين.

 


 

محمد المخزنجي











بيت العجوز الطبيب حاجي مرادفتش





صيد أسماك التروت من المياه الصافية





افتقدت صديقتها فجاءت للزيارة