الجزيرة الصغيرة الحية
الجزيرة الصغيرة الحية
اندهش خضور كثيراً عندما اطلع على تقرير عن جزيرة (كُبّر) الكويتية, كتبه وصوره عالم الطبيعة الدكتور (لارس بجورستروم), يؤكد فيه أن هذه الجزيرة تنبض بالحياة. أي حياة? تساءل خضور في نفسه, فقد رأى هذه الجزيرة مرة, عندما كان في رحلة صيد بالخليج قرب ساحل الكويت, ومر زورق الصيد بالجزيرة, ولم ير فيها خضور أي معالم ظاهرة للحياة. وحتى يتأكد خضور مما قاله وصوره الدكتور (بجورستروم), قرر أن يذهب في رحلة خاصة إلى جزيرة كبر, وهي واحدة من الجزر الصغيرة في الخليج التي ترتبط بساحل الكويت. في الصباح الباكر استقل خضور زورقا سريعاً من مرفأ عند ساحل (الفحاحيل) الكويتي, وبعد ساعة وصل الزورق إلى جزيرة كبر, وكانت الشمس تصعد برتقالية كبيرة, كأنها تخرج من مياه الخليج عند الشرق. (أين أنت أيتها الحياة?) هتف خضور ساخراً بصوت مسموع, لأنه لم ير لأول وهلة غير أرض قاحلة تلونها بقع بنية وخضراء باهتة من شجيرات العشب القصيرة التي تنمو في الرمال. لكنه ما إن تحرك بين شجيرات العشب هذه, حتى هجمت عليه الإجابة ترفرف بمئات الأجنحة الصغيرة, وعشرات الأجنحة الكبيرة, تقول له: (أنا هنا. أنا هنا. أنا هنا)! لقد باغتت خضور مئات الفراشات الملونة التي أخرجتها قدماه من بين شجيرات العشب, كانت مختبئة في الظلال الصغيرة التي تمنحها لها هذه الشجيرات, وفزعت فأخذت تخفق بأجنحتها الملونة حول جسم خضور ورأسه, كأنها تقول له: (سنزعجك كما أزعجتنا). ولم يكن لينزعج منها, فقد قرأ أنها رقيقة لا تؤذي, حتى أنها تسمى: (السيدات الملونات). وظل الكثير من هذه الفراشات يفزع من خطى خضور بين العشب, حتى أجبرته أجنحة أخرى كبيرة على التوقف. فوجيء خضور بطائر كبير من طيور (القبرات) ينطلق صاعداً كالقذيفة من بين قدميه, وكانت رفرفة جناحيه الكبيرين قوية حتى أنها لطمت أنف خضور لطمة موجعة, برغم أنها كانت من طرف أحد الجناحين. وتجاوز الطائر خضور, لكنه لم يبتعد كثيراً بل توقف فوق احدى الشجيرات القريبة ينظر إلى خضور بقلق وترقب. أدرك خضور من سلوك الطائر أنها انثى وأنه يقترب من عشها, فتراجع بحذر خطوة واحدة, وأخذ ينحني ويتلفت متفقداً ما تخفيه شجيرات الشعب, وعثر على العش وبه البيضات, فنظر إلى الطائر الذي يراقبه نظرة عطف, وحاد مبتعداً عن طريق عشه. لم يعد خضور يخترق تجمعات الشجيرات الصغيرة وهو يتجول, وظل حريصا على السير بعيداً عن هذه المساحات الخضراء فوق رمال الجزيرة, وكان يتأملها عند حوافها بحرص, وراح يكتشف الكثير: إضافة للفراشات كانت هناك أنواع وألوان عديدة من حشرة اليعسوب الجميلة التي تشبه الطائرات الحوامة, وزهور بيضاء صغيرة رائعة تتوج العشب الأخضر, وزنابق مدهشة تنبت عبر العشب. ولاحظ خضور بدهشة أن هناك نوعاً مختلفاً من القبرات تضع بيضاتها في أعشاش مكشوفة تحت الشمس, فأخذ يراقبها حتى تحولت دهشته إلى انبهار كامل. هذا النوع من الطيور يصل إلى الجزيرة في شهر مايو, حيث تبدأ شمس الخليج في التوهج, وتكون الحياة تحت الشمس حارقة, لكن هذا النوع من القبرات الذي يضع بيضاته مكشوفة للشمس, لا يتوقف عن تبريدها بجسمه! يتناوب الذكر والأنثى الطيران فوق مياه الخليج حتى تلامس المياه ريش الصدر, فيسرع الطائر المبتل ويرقد على البيضات ليبردها بما يحمله في ريشه من قطرات الماء. ولا ينقطع هذا الطيران الشاق طوال النهار في درجة حرارة تتجاوز الأربعين درجة مئوية, فلا تحترق الأفراخ داخل البيضات, وتخرج إلى الحياة في موعدها, وتطير في سماء الجزيرة. (نعم, إنها الحياة). قال خضور ذلك لنفسه وهو يلقي نظرة واسعة على الجزيرة, ويتذكر ما قرأه في مقال الدكتور (بجورستروم) عن أعجوبة دائرة الحياة في جزيرة كبر: تأتي إليها الطيور المهاجرة لتتزاوج فتخصب أرضها بفضلاتها, ويكفي القليل من المطر والرطوبة لتنبت اعشاب (الغزول) فتكسو رمال الجزيرة بلونها الأخضر, وفي الربيع تتفتح زهور (الغزول) البيضاء منتشرة في الجزيرة, ومن رحيق هذه الزهور تتغذى الفراشات, أما الزنابق الصحراوية فإنها تعجز عن الحياة وحدها في رمال هذه الجزيرة, فتستعين بجذور شجيرات العشب لتمدها بالغذاء. توسطت الشمس الحارقة قبة السماء فوق جزيرة (كُبر) فأسرع خضور إلى جوف الزورق يحتمي بظله من حرارة الشمس. وكان ينظر عبر قمرة الزورق إلى الجزيرة التي تأكد أن برها ينبض حقاً بالحياة, وراح يفكر في مياه البحر من حولها وهي تتألق بلون فيروزي جميل.
|