سعيد.. خروف العيد

سعيد.. خروف العيد

مباشرة بعد عيد الفطر, قام أبي بشراء خروف صغير لنا, فأسميناه سعيد, ذلك لأنه كان عيداً سعيداً والخروف الصغير كان سعيداً, إلا أن أبي قال إنه يعجبه اسم سعيد لأنه لعيد الأضحى السعيد, وهنا شعرنا نحن بالحزن لأننا عرفنا أن سعيد سيُذبح لعيد الأضحى الذي سيحل بعد عيد الفطر بشهرين تقريباً, أما أختي الصغرى سارة ذات السنوات الخمس, فلم تفهم معنى كلمات أبي, لذا لم تحزن ولم تشعر بأنها ستفقد سعيد قريباً, حتى سعيد ظل سعيداً وأخذ يلعب معها وكان منظرهما معاً مفرحاً.

توالت الأيام ونحن نسينا أو تناسينا أن سعيد سيذبح, وأخذنا نلعب معه ومع سارة, فقد تعلم أن يتبعنا من دون رباط وأن يجري خلفنا ويقفز معنا حين نتقافز, وكان سعيد سعيداً فعلاً, فقد كان خروفاً مدللاً, ذلك لأن أبي كان يغسل له صوفه الأبيض الذي كان قبل الغسيل رمادياً من الأتربة والأوساخ, إلا أنه عندما ينتهي من غسله كان يبدو تحت أشعة الشمس أصفر كالذهب وناعماً كالحرير.

ولا أنسى كيف يقف سعيد بعد الغسيل ويهز جسده المكتنز لتتناثر حبّات الماء من عليه, وينتفش صوفه الذي دعكه أبي بالماء والصابون المخصص له, ومن ثم جففه بمنشفته الخاصة. وكنا عندما نأخذه معنا ليسير في الطرقات نشعر بالفخر لكونه نظيفاً وجميلاً أجمل من باقي الخراف التي اشتراها جيراننا لعيد الأضحى. ولم يقتصر دلالنا له على هذا فقط, فقد كانت والدتي تخشى عليه من برد الشتاء, فكانت تفرش له بعض البطانيات القديمة لينام عليها أثناء الليل لتبعد عنه برودة الأرض, وفي النهار, كانت تربطه بعيداً عن الشمس في مكان ظليل. كبر سعيد وهو يشعر أنه ملك بين الخراف, فلا أعتقد أن هناك خروفاً يعامل بهذه الطريقة غير خروفنا سعيد, حتى نحن كنا نطعمه من حلوياتنا والشوكولاته التي نشتريها.

وبرأيي كان سعيد يستحق الدلال, فهو خروف ذكي أيضاً, فعندما كنا ندخل المنزل ونتركه وحيداً, كانت مأمأته دعوة لنا لنخرج ونلعب معه. وكان إذا رآنا ندخل البيت بعد عودتنا من المدرسة دون أن نحييه, يغضب كثيراً ويظل يمأمئ ولا يسكت حتى نخرج ونفك وثاقه ونجري معه. وإذا دخلنا أحد منازل الجيران, كان ينتظر عند الباب دون أن نربطه, لا يتحرك أو يسير, بل كان يجلس وينتظرنا, وما إن يرانا خرجنا حتى ينهض ويجري نحونا ليكمل سيره معنا.

وأجمل ما أذكر حياله أنه كان يلعق أصابعنا ويفرك رأسه بيدينا, وكأنه يعبّر لنا عن حبّّه, ونحن كنا نحبّه كثيراً.

وفي يوم قالت سارة تحدث سعيد: غداً يوم العيد وسيقوم أبي بغسلك وشراء رباط جديد لك, وستضع أمي فرشاً جديداً لك أيضاً, ذلك لأني حصلت على ثوب جديد للعيد.

لم تدرك سارة مدى الحزن الذي أثارته في نفوسنا وهي تمني سعيد بما هو جديد لعيد الأضحى, لم تكن تدرك أنه سيذبح غداً, وأنها لن تراه إلا على المائدة مطبوخاً ليؤكل. طبعاً لم نتفوّه بشيء, ولم نحاول أن نعلمها بالأمر, فهي لاتزال صغيرة, إلا أننا اصطحبناها للداخل وأغلقنا الباب على سعيد وتجاهلنا مأمأته.

في الصباح, استيقظت وأنا يخيّل إلي أني سمعت صوت سعيد, فركضت لأفكه وألعب معه كعادتي كل يوم, إلا أنني حين توقفت عند النافذة المطلة على مربطه, ورأيت الجزار يتعارك معه ليبطحه أرضاً ليذبحه, وسمعت مأمأته وكأنه يستجير بنا, شعرت بحزن شديد, ولم أكمل النزول, حتى أني ابتعدت عن النافذة كي لا أراه يذبح, كان أبي هناك وأخي الكبير أيضاً, ربما سأكون معهما في العام القادم إلا أنني الآن لا أستطيع أن أرى سعيد المدلل غير سعيد.

سمعت صوت خطوات سارة الصغيرة وهي تنزل متجهة إلى سعيد, فأسرعت أستوقفها وقلت لها مخففا إن سعيد قد تركنا, وإنه فك رباطه أثناء الليل وهرب, فسألتني لماذا? هل أحزنه أحد? أجبت بأنه لم يحزنه أو يزعجه أحد, بل هو قرر أن يذهب ليصاحب أناسا آخرين. فسألتني ثانية لماذا? هل سيحبونه مثلي ويهتمون به كما اهتم به والدي? فقلت لها: نعم أنا متأكدة من أنهم أناس طيبون وسيحبّونه, فهو سعيد معهم. بكت قليلاً وقالت إنها لا تحبه لأنه تركها, إلا أنها بعد ذلك قالت إنه سيعود قريباً لأنه لن يحب الناس الجدد وسيعود لنا.

مرّ صباح العيد ككل عيد بتبادل التهاني والمرح, ونسيت سعيد كما نسته سارة, إلا أنه عندما جاء وقت الغداء, وكان لحماً كما هي العادة في عيد الأضحى, عبست وسألت أمي: هل هذا هو? فقالت: نعم بالطبع. فرفضت أن آكل. فقد كان صديقي, فكيف آكله, إلا أن سارة لم تعرف ذلك, فراحت تأكل, فشعرت أنهم كلهم مجرمون فاكتفيت بالأرز والسلطة ولم أقل شيئاً بعد ذلك.

بعد انتهاء يوم العيد الأول دعاني والدي إلى غرفته وطلب مني أن أحضر سارة معي قائلاً إنه سيحكي لنا حكاية, أمسكت بيد سارة وجلسنا مع أبي بغرفته, فقال: لابد أنك درست في المدرسة قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل? فأجبته بنعم. فقال: سأعيدها لك ولسارة كي تعرفها علها تفهم وتستفيد.

فبدأ يقول: رأى سيدنا إبراهيم نفسه في المنام يذبح ولده إسماعيل, فأخبر إسماعيل بما رأى وسأله رأيه, فقال له أن يفعل ما أُمر به, وسيكون مطيعاً له, فقام سيدنا إبراهيم وهمّ بذبح ولده, فأمره الله بأن يتوقف, وأنزل له كبشاً من السماء ليفتدي به إسماعيل, فقد كان الله يختبرهما بالصبر والطاعة. وبعد ذلك, أصبح الفدي أو الأضحية شعيرة من شعائر الحج يقوم بها المسلمون كل عام أثناء الحج.

توقف أبي ونظر إلينا ثم قال: هل فهمتما قصدي? فقلت له: نعم يا أبي فهمت. إلا أنني أحببت سعيد جداً ولم أستطع أن آكله, وهنا صاحت سارة: هل أكلتم سعيد? هل ذبحتمــوه مثـل الخروف الذي في القصة? فقال أبي مهدّئاً: يا حبيبتي كل الخراف خلقها الله لتذبح وتؤكل, إلا سعيد فقد لعب وفرح معك وهو الآن في مكان آخر, فابتسمت سارة ابتسامة صغيرة وخرجت تجري وهي تقول: الحمد لله, ظننت أنكم أكلتم سعيد, فسعيد صديقي.

نظرت لأبي وقلت: ستكبر وتفهم, وأنا أيضاً سأكبر وسأتقبّل الأمر بشكل أفضل العام القادم, فهذا أمر الله وهذه سنّة الحياة. صح?

عبدالقادر سالمين