أكاذيب تكشفها أشكلون

أكاذيب تكشفها أشكلون

(أشكلون) مدينة صغيرة, ولكنها تكشف عن كذبة كبيرة تقوم بها إسرائيل, هذه المدينة الصغيرة التي كانت تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط لم تعد موجودة الآن, فقد طمرتها الرمال والأملاح, وغاصت بيوتها وأسوارها القديمة تحت سطح الأرض, ولكنها مع ذلك بدأت في الظهور بفضل جهود علماء الآثار الذين لم يكفوا عن التنقيب منذ عام 1985, وكانت النتيجة المؤكدة والتي أظهرتها كل الحفريات أن إسرائيل كاذبة وليس لها أي حق في أرض فلسطين, ولكن دعوني يا أصدقائي الصغار أبدأ معكم القصة منذ البداية.

منذ أن احتل اليهود فلسطين وأعلنوا عن دولتهم (إسرائيل) في عام 1948, وهم يحاولون أن يجدوا أي دليل يؤكد مزاعمهم بأن هذه الأرض كانت لهم في يوم من الأيام, وقد حاول المؤرخون في إسرائيل أن يفعلوا ذلك, فزوّروا الأحداث واخترعوا العديد من الوقائع وغالطوا في الكثير من الحقائق, ولكن بقيت الحلقة الناقصة دون حل, وهي أنه لا يوجد دليل واحد على الأرض يؤكد كل هذه الدعاوى, لا آثار ولا معالم ولا رقائق مكتوبة ولا عملة مسكوكة ولا حتى قطعة من الفخار, وبدأ علماء الآثار في حركة محمومة من أجل البحث عن هذه الإثباتات, وقاموا بالحفر في كل مكان, تحت المسجد الأقصى حيث يزعمون أنه كان يوجد هيكل النبي سليمان, ولم يجدوا شيئاً, وبحثوا على سواحل البحر حيث يقولون إن أهم المدن الكبرى لهم قد قامت, وحتى تحت مياه البحر الأبيض, كل ذلك دون أن يجدوا أثراً واحداً يعتد به, كل ما وجدوه هو المزيد من الآثار التي تدل على الوجود الفلسطيني العربي والإسلامي في فلسطين.

المدينة المنسيّة

لقد تخيلت إسرائيل أن كل مشاكلها التاريخية سوف تجد حلا لها في تلك المدينة الواقعة على شاطئ البحر والتي تبعد عن مدينة (تل أبيب) بأميال قليلة وتسمى أشكلون, فماذا وجدت بالضبط?

إنها مدينة منسية الاسم الآن, ولكن في عام 3500 قبل الميلاد كانت أشكلون واحدة من أكبر موانئ البحر المتوسط, فقد كانت تقع على الطريق المهم الذي يربط بلاد الإغريق القديمة بكل من سوريا ومصر, لذلك فقد كانت شاهداً على قيام وانهيار العديد من الحضارات وتداخل على أرضها مزيج من كل ثقافات العالم القديم, فإلى جانب ثقافة الكنعانيين الذين أسسوا هذه المدينة, وهم أجداد الفلسطينيين القدامى, جاء إلى هذه المدينة, الفينيقيون والإغريق والرومان والبيزنطيون والمسلمون, وأخيراً الصليبيون. وقد سار على شوارعها المرصوفة بالأحجار المؤرخ القديم هيرودوت, والإسكندر الأكبر وريتشارد قلب الأسد والقائد العربي صلاح الدين, وقد دمّرت المدينة أكثر من مرة وأعيدت للحياة لتكون شاهداً على كل تلك العصور.

في عام 1985 بدأ فريق من الباحثين عن الآثار من جامعة (هارفارد) البحث والتنقيب في هذه المنطقة الأثرية الفريدة, وقاموا بفحص الصخور الموجودة التي دلت على أن الكنعانيين قد أنشأوا هذه المدينة حتى يقوموا بتجارة الفاكهة والزيتون مع شرق المتوسط, وقد اكتشفت البعثة أخيراً منضدة من الواضح أنها كانت تستخدم لتعليم التلاميذ فقد وجدوا عليها نقوشا لكلمات كنعانية ومقابلها الكلمة نفسها مكتوبة باللغة اليونانية القديمة, كما كشفت الحفريات عن حقيقة أخرى حاولت إسرائيل أن تغالط فيها طويلاً, بادعائها أن الفلسطينيين كانوا أعداء للفن والثقافة, وأن حضارتهم كئيبة, لا توجد فيها رسوم أو ألوان أو حتى زينة, فقد كشفت أشكلون عن خطأ هذا الادّعاء, وأنهم كانوا يصنعون أوعية من الخزف الملوّن, وينحتون التماثيل الجميلة الشبيهة بتماثيل الإغريق ويزيّنون جدرانهم بالرسوم مثل المصريين القدماء.

أثر يقود إلى أثر ولكن كيف بدأت قصة هذه الاكتشافات?

منذ وقت مبكّر, وحتى قبل قيام إسرائيل, كان الأثريون يعرفون موقع أشكلون, فقد كانت أطلالها وآثار أسوارها واضحة على شاطئ البحر, في عام 1815. عثرت سيدة إنجليزية هي الليدي هييستر ستانهوب على لوحة صغيرة من الفسيفساء توجد عليها رسوم رومانية, وقد نبهت هذه اللوحة إلى الأهمية الأثرية لهذا الموقع, وفي عام 1920, قام عالم آثار بريطاني آخر بكشف طبقات من التربة كانت تحتوي تحتها على العديد من المنازل الفلسطينية, ثم سادت الاضطرابات المنطقة بأكملها, ولم تجرؤ أي بعثة على القدوم بعد ذلك, خاصة بعد انتشار العصابات الصهيونية. وفي عام 1985 حاولت إسرائيل أن تبني منتجعاً في هذه المنطقة, ولكن (البلدوزر) الضخم اصطدم ببقايا أسوار من الحجر الصلد, واعتقدت إسرائيل أن هذه المنطقة بما حوته من آثار مختلفة يمكن أن تغطي كذبتها الكبرى, لذا فقد قام أحد الأثرياء اليهود الأمريكيين (ليون ليفي) بتمويل بعثة البحث, وبدأ العمل في عام 1990, وقد قامت بحفر حوالي 12 حفرة حتى الآن يبلغ عمق بعضها أكثر من 900 قدم, ومن بين هذه الحفر بدأت حقائق التاريخ في التكشّف.

إن بني كنعان لم يؤسسوا المدينة فقط, ولكنهم أسسوا جيشاً ضخماً استطاع أن يغزو مصر, وقد أطلق عليهم المصريون اسم (الهكسوس) وهي كلمة تعني باللغة المصرية القديمة (الحكام الأجانب), وقد تمكن المصريون من طردهم بعد سنوات من الكفاح, وكانت هذه الهزيمة سبباً في زوال قوة بني كنعان, ويقول (ستاجر) المشرف على البعثة: لقد عرفنا بوجود الفلسطينيين القدماء من تحليل عظام الحيوانات التي وجدناها في الحفريات, فقد وجدنا أنهم يأكلون لحم الخنزير, واليهود طوال تاريخهم لم يأكلوا لحم هذا الحيوان (وتأثر الفلسطينيون كثيراً بالحضارة اليونانية خاصة بأهل مقدونيا الذين كانوا يتبادلون معهم التجارة, وتعرّضت المدينة في هذه الفترة إلى دمار من نوع آخر عندما أقبلت جيوش نبوخذ نصر الإمبراطور الآشوري الذي دمّر المدينة, واستولى على المنطقة كلها, وقد مهّد هذا لظهور الفينيقيين على مسرح الأحداث, وقد كانوا تجّاراً مهرة, لذلك استطاعوا أن يعيدوا الحياة إلى أشكلون مرة أخرى, وقد استمرت هكذا حتى استولى عليها الرومان في عام 37 قبل الميلاد.

ثم جاءت جيوش الفتح, وأصبحت أشكلون مدينة إسلامية, وكتب على أسوارها أسماء الجلالة, وظهر في آثارها العديد من قطع الحلي والخزف والزجاج التي تحمل نقوشاً إسلامية, وقد حكم المسلمون المدينة لمدة 500 عام متواصلة حتى جاءت جيوش الصليبيين.

على أسوار أشكلون, قال القائد صلاح الدين الأيوبي كلمته الشهيرة: (إنني أضحي بأبنائي, ولا أضحي بحجر واحد من أسوار أشكلون), ولكن الظروف لم تساعده على تحقيق هذا الوعد, فقد جاءت من أوربا موجات كاسحة من جيوش الصليبيين الذين يقودهم ملك إنجلترا (ريتشارد) قلب الأسد, واضطرت جيوش (صلاح الدين) للتراجع مؤقتاً, ولكنه لم يرد أن يترك المدينة لتقع غنيمة سهلة في أيدي الصليبيين بحيث يستفيدوا من موقعها الحصين, لذلك أمر بهدمها والدموع في عينيه. ولكن لم يمر وقت طويل حتى نهض المماليك الذين حكموا مصر من بعده وقاموا بطرد آخر جندي صليبي, إلا أنهم لم يعيدوا بناء المدينة التي تحوّلت إلى ذكرى وماض.

رحلة داخل حفرة

وإذا فحصنا معاً أي واحدة من حفريات الموقع, فسوف نجد أنها تحتوي على كل الطبقات التاريخية, واحدة فوق أخرى, وعلينا أن نرى الكشوف التي توصل إليها فريق البحث الجديد في العديد من هذه الحفر, فقد وجدوا أن الترتيب الغالب على معظمها هو كالتالي: في بطن الحفرة توجد بقايا بني كنعان, أحد الأوعية التي تحمل نقوشاً مصرية, تأثر بها الهكسوس عندما قاموا بغزو مصر, وفي الطبقة الأعلى منها توجد بقايا الفلسطينيين, فأس صغيرة عليها نقوش مقدونية قديمة, وأعلى من ذلك توجد البقايا الفارسية والفينيقية, آثار من بابليون وكئوس من زجاج جلبها الفينيقيون من قبرص, وفي الطبقة الأعلى توجد آثار الحضارة الهيلينية عندما قام الاسكندر الأكبر بغزو أشكلون وأحضر معه العديد من التأثيرات اليونانية, وأعلى من ذلك توجد الآثار الرومانية, وفوق كل هذه الحضارات القديمة توجد بقايا الحضارة الإسلامية, آثار من النقوش والأثاث والحلي.

كل شيء موجود وجلي وواضح, ماعدا شيئا واحدا هو أنه لا يوجد أي أثر يهودي, في كل الحفريات التي أقاموها وعلى مختلف الارتفاعات, لاشيء يؤيد دعوى الوجود الإسرائيلي, لقد كانوا مجرد مرحلة عابرة على هذه الأرض, لم يبنوا هيكلاً ولم يقيموا حضارة, ولم يخلفوا أثراً.

 


 

محمد سيف





صورة متخيلة لأشكلون القديمة تحيط بها الأسوار





أشكلون وعليها النقوش العربية وكلمة الملك لله





مقتنيات من مختلف الطبقات التي وحدت حقل الحفريات العصور التي تنتمي إليها