وليد والحلم


وليد والحلم

رسوم: هلا عكاري المرعوشي

ولدٌ كبقية الأولاد, له أحلامه وآماله.

ولكن الحياة بالنسبة إليه رحلة ممتعة, يقضيها بالتسلية واللعب, ولا فرق عنده أنجَح أم فشل, المهم أن يكون سعيدًا مرتاحًا.

وكان دائمًا يفكر بأمور خيالية, وكلما تعمق فيها تعب على معرفة الطريق للوصول إلى حلمه.

وفي يوم قال لأمه:

هل تتحقق الأحلام يا أمي?

أجابت الأم: الحلم مرتبط بالعمل يا ولدي.

- ولكنني لا أحب أن أعمل.

- وحلمك لن يتحقق.

- ولكن حلمي لا يحتاج إلى عمل.

- كيف ذلك?

- إنه مقدّر يا أمي.

- وما هو حلمك يا بني? قالت الأم.

ضحك وليد ثم أغمض عينيه, وحذّر أمه من الضحك, وراح يختال أمامها كديك رومي وقال:

أتمنى أن أصير أميرًا.

نظرت الأم إلى ولدها نظرة إشفاق وتساءلت بدهشة:

- لماذا?

- لأن الأمراء يأكلون ولا يعملون, ويسعدون ولايتعبون.

- و....

- وماذا بعد?

- آه يا أمي, إن أيامهم نزهة ممتعة, وحياتهم هادئة, سعيدة.

انتفضت الأم, وقالت بصوت حاد وقوي:

- هذا ليس صحيحًا.

- نعم يا أمي, حياة الأمراء مميزة, ورائعة.

- مَن أخبرك ذلك?

- القصص.

أجابت الأم بابتسامة هادئة:

- لا تخطئ يا بني, لاشيء ينجح إلا بالعمل.

تذمّر وليد, وانقبضت أسارير وجهه, كأنه سمع باسم عدو له وقال: لا أحب العمل.

نظرت الأم نظرة ألم وقالت: هداك الله يا بني.

ثم تركته وذهبت لتحضّر الطعام لزوجها العائد من الحقل.

ومرّت الأيام ووليد لا يمدّ يد المساعدة لأهله, يشتغلون في الأرض ويحدلون السطح, ويجمعون مياه الشتاء, وهو لاهٍ يتنقل بين الحقول, يخرّب الأعشاش, ويكسر الأغصان, ويؤذي أبناء قريته الصغار, وكلما وصل الخبر إلى أمه وأبيه وبخاه وأنّباه.

ولكنه يتناسى كل نصائحهما عندما يبتعد عنهما.

وفي ليلة من ليالي الشتاء, أوى كعادته إلى فراشه باكرًا, واستسلم لنوم عميق, وراحت أمه تضرم نار الموقد, ثم قالت لزوجها:

أنا خائفة على مستقبل وليد يا أبا وليد.

أجاب أبو وليد بتنهيدة عميقة:

- وما العمل?

- آه يا أبا وليد, كم كنت أتمنى أن يتعلم مهنة تساعده على كسب طعامه.

غير أن أبا وليد سرح في بحر من الأماني والرغبات وقال:

كم كنت أتمنى أن يصير معلمًا.

أجابت أم وليد بكل بساطة:

يقولون الهندسة أفضل.

فصرخ أبو وليد بغضب:

مهندس, معلم, ما هذا يا امرأة? هل تعلم ابننا أصلاً?

بكت أم وليد وقالت: إنها غصّة في قلبي.

لكم أمضيت الليالي أتخيله أستاذًا كبيرًا محترمًا, يتقرّب منه الجميع.

أجاب زوجها بصوت هادئ: لا عليك يا عزيزتي. الله لا يترك أحدًا. قومي لننام, فلدينا أعمال كثيرة غدًا.

قامت أم وليد وشدّت الغطاء على جسد ولدها وصلّت من أجله, ومن أجل كل الفقراء والمساكين, ثم دخلت فراشها وهي تتمتم بالصلاة, أما وليد, فلقد كان يغرق في بحر من الأحلام التي نقلته إلى عالم غريب وساحر ومخيف:

إنه تائه في عالم يضجّ بالسحر والجمال, والأطفال حوله يلعبون بألعاب كثيرة ومتنوعة, والزهور تحيط به من كل جانب, والمأكولات والمشروبات أمامه, يستطيع أن يأخذ منها ما يشاء, ولكنه خائف لا يجرؤ على مد يده, ولا أحد يلتفت إليه.

راح يبحث عن أهله في وجوه الناس, ولكنه لم يجد أحدًا, أحسّ بالقلق والخوف والاضطراب, وكل ما حوله يغني بفرح, وفجأة قادته قدماه إلى حديقة جميلة فيها كل ما تشتهيه النفس من الفواكه.

وكان الجوع قد أنهك قواه.

فحاول أن يقطف تفاحة من شجرة تدلت أغصانها خارجًا, وإذ به يسمع صوتًا مخيفًا يهدد ويتوعد: من هذا القذر الذي يتطاول على أملاكي سأقطع عنقه.

وبعد ثوان انتصبت أمامه امرأة غريبة الشكل, أمسكته من يده وجذبته داخل الحديقة وقالت:

كيف تجرؤ على سرقتي?

لم يستطع وليد الكلام, إنه يرتجف كورقة أمام رياح قوية, تكلم ياصعلوك, وإلا قتلتك.

فأجابها بصوت مرتجف خائف:

كـ...ن...ت...جا...ئـ....عًا...

يا سـ...يد...تي.

فقالت بغضب:

المأكل في كل مكان, لماذا لم تمد يدك إلاّ إلى حديقتي?!

- سامحيني يا سيدتي.

أشفقت المرأة الشريرة على وليد وقالت له:

من أنت?

بكى وليد وقال: أنا شرير, ضائع, فقدت أهلي.. وراح يبكي.

فأجابت متعجبة: أين فقدتهم?

لا أدري.

فأنا لا أتذكر أين هو بيتنا.

قالت: حسنا لا عليك.

ما هو عملك?

فكّر وليد وقال:

أمير.

ضحكت الساحرة ضحكة سخرية وقالت:

وإن كنت أميرًا ما هو عملك?

أجاب بخوف: لا شيء.

فقالت مؤنبة: كيف ترضى أن تعيش من دون عمل? صمت قليلاً, ووبّخ نفسه لأنه كذب على هذه السيدة فربما تساعده, وقال: الحقيقة ياسيدتي أنا لست أميرًا.

ولكن أحب أن أكون أميرًا.

قالت متعجبة: ولماذا?! أجابها بثقة: الأمراء حياتهم سهلة ومسلية.

قالت بسخرية: أتحب أن تكون أميرًا?

قال مبتسمًا: إنه حلمي الوحيد يا سيدتي.

أجابته: سيكون لك ما تريد.

ولكن حاول أن تعمل وتعرف لذة الانتاج.

اضطرب وقال: وماذا أعمل?

عليك أن تعمل في حقلي, تزرع, تنكش, تقلّم الأشجار.

سأحاول يا سيدتي.

فأدخلته بيتها وأطعمته وألبسته ملابس نظيفة وخصصت له غرفة للنوم.

وفي اليوم التالي, أعطته معولاً وراحت تراقبه كل يوم وهو يعمل وحيدًا ولا أحد بجانبه يرشده, إلا هذه السيدة التي تحثه على المثابرة في العمل كلما أراد أن يستريح.

ولكن عليه أن يعمل مقابل قطعة من الخبز كل يوم ليسدّ بها جوعه.

لكن عمله لم يكن جيدًا, فغضبت المرأة وهددته, فقال لها بعصبية واشمئزاز:

هذه طاقتي, وأنا لا أجيد العمل.

اقتربت منه وهزّت كتفه وقالت: أنت إنسان فاشل, تعتقد أن الأمير سعيد لا عمل له, جرّب أيها المغفل حياة الأمراء.

وبدأت الساحرة العجيبة تقرأ تعاويذها فتحول وليد إلى أمير, عنده حاشية وأملاك وقصور فاخرة.

فسرّ كثيرًا, وراح يطلب أشهى المآكل, ويقيم أفخم الحفلات, ويشتري كل ما يحلو له.

وفي يوم تقدم منه رجل مفكر وقال:

إن أموال الإمارة أوشكت أن تنفد, ولم تضع خطة لتحسين وضعنا المالي والشعب ثائر عليك.

تعجّب وليد من كلام هذا الرجل.

وقال: أنت مجنون. مَن يثور على أميره??

أجاب الرجل باتزان: الشعب يا سيدي.

إذا كان أميرهم ضعيفًا, متخاذلاً, متهاونًا, بالعمل والصناعات والعلم.

فكّر وليد طويلاً, وسأل نفسه عن طريقة ترضي أهل إمارته, ولكنه غير قادر على تسيير شئون الإمارة, لأنه جاهل بكل شيء, هل يشير عليه بالزراعة أم بالصناعة, لا يستطيع أن يفسّر لهم فائدة أي عمل أو يشرح لهم أي خطة.

هل يهرب من غضب الشعب? لا.

لقد تذكر والده الطيب.

عليه أن يبحث عنه ليرشده ويساعده, فهبّ مسرعًا وأسرج فرسه, وانطلق يفتش عن أهله.

وطالت رحلته وغيبته, وأنهكه التعب, فبكى وندب حظه, ولام نفسه لأنه لم يسمع نصائح ذويه, وتمنى لو بقي ولدًا معدمًا يتمتع بحنان أمه وأبيه.

وخاف الموت وحيدًا في هذه الأراضي المقفرة الجدبة.

وأخذ يبكي وعلا صوته بالشهيق والندب.

ومن كثرة البكاء, فتح عينيه فوجد أمّه بجانبه, تستفسر عن سبب بكائه وهو نائم, والاضطراب بادٍ على وجهها:

ما بك يا حبيبي?

ماذا أصابك?

وفي الوقت عينه أسرع والده, ليطمئن على ولده الحبيب.

لم يجب وليد, بل رمى بنفسه في حضن أمه, وهو يجهش بالبكاء.

قالت أمه وهي تبكي: سلامتك يا بني.

أجاب:

- سامحيني يا أمي...سامحني يا أبي.

تكلم والداه بصوت واحد:

- علام يا حبيبي?

قال: أعدكما أن أسمع نصائحكما وألبي كل رغباتكما, وأعود إلى المدرسة من جديد.

لقد أخطأت. الضياع مخيف يا أمي, ساعدوني.

قال الأب: هداك الله يا بني.

ثم نظر إلى زوجه وقال: ألم أقل لك يا أم وليد إن الله كريم, لقد هدى ولدنا.

ولكن قل يا بني ماذا حدث لك?

وراح وليد يقص على أهله أحداث الحلم المزعج, وبعدما انتهى من سرد الأحداث المتعبة, ضمّته الأم الطيبة إلى صدرها وقالت: نم ياولدي, ففي الصباح تولد الأحلام الحقيقية.

ومنذ ذلك اليوم ووليد يقوم بدوره في البيت والمجتمع, ويعمل بجد ليحقق أحلامًا حقيقية, وصار أهل القرية يحبونه, ويقدرونه ويحترمون رأيه, ويستشيرونه في أمورهم الحياتية والعملية.

فلقد اتعظ من الحلم المخيف, وعاد إلى الواقع وصار يلقّب بـ(الشيخ الحكيم).

 

 


 

مها خيربك ناصر

 




غلاف هدية العربي الصغير