آخـر المحطـات!

آخـر المحطـات!

رسوم : عبدالعـــال

كان أبو ماجد, سائق سيارة الأجرة يسير مسرعاً في الطريق السريع الذي يحيط بمدينة دمشق, كانت الساعة الخامسة عصراً, والطريق فسيح مكوّن من خانات أربع, وينتهي بإشارة عند مفترق طرق.


بمحاذاة الرصيف في منطقة المزة, ركب زياد سيارة أجرة, وأشار للسائق قائلاً:


- يعطيك العافية... إلى عربين.


- أهلاً وسهلاً, قالها أبو ماجد وهو يحرّك ناقل السرعة اليدوي وينطلق بالسيارة باتجاه الإشارة التي أذن مصباحها الأخضر بالمسير, ثم أردف يقول:


- عربين... هل أنت من ريف دمشق?


- أجل ذلك الريف المميز حيث الغوطة بأشجارها المثمرة وأرضها المعشبة النديّة.


- طبعاً يا أخي, ولكن لولا الحاجة ما أركبتك معي الآن.


- لماذا? ما الخطب?


- يا سيدي, اليوم في الرابعة فجراً وقبل خروجي من بيتي أوصتني زوجتي بجلب الخبز وبعض الحليب, فشرعت أعد نقودي التي في جيبي, اكتشفت أنها لا تكاد تكفي, لكن توكلت على الله وانطلقت في طريقي, وصلت إلى المخبز, واشتريت بضعة أرغفة ساخنة, ثم عرجت على بائع الحليب في الحارة المجاورة للمخبز, وقد لحقت به قبل أن ينطلق في جولته المعهودة يمر فيها بالحارات المجاورة, وابتعت منه حليباً طازجاً, هذا الحلاب نشتري منه منذ زمن طويل, وهو قريب لي يعاملنا بسعر خاص.
وضعت الحليب في مخزن السيارة والخبز بجانبي ملفوفاً في ورقة صحيفة, ثم قفلت عائداً في طريقي إلى المنزل. منزلي بعيد نسبياً والساعة قاربت الخامسة, وبداية العمل اليومي بالنسبة إلي يكون عادة من محطة حافلات النقل السياحي في القابون. الرزق هناك وفير, حيث يتخاطف الركاب القادمون من حلب والرقة وحمص سيارات الأجرة متلهفين إلى الذهاب إلى أشغالهم.


ليس من مصلحتي بعثرة الوقت هنا وهناك عند الإشارات وبين زحام الصباح الذي أخذت بوادره تظهر, فعمدت إلى طرق مختصرة قليلة التقاطعات والإشارات, وأنا الخبير العالم بشوارع الشام وأزقّتها, ولكن يا للأسف, ليتني ما أسرعت يا أخي عند ذاك المنعطف, فما أدراني بأن سيارة أقل مني سرعة قد انعطفت قبلي ولم ألحظها, ولكنه سوء الحظ, وقد جرى ما لم يكن في حسباني, واصطدمت وقد تحطّم مصباح سيارتي الأمامي.


تراجعت بالسيارة إلى الخلف, ثم تجاوزت السيارة المصدومة مكملاً طريقي, فأنا إنسان بسيط تثقل المشاكل كاهلي, السيارة التي صدمتها ليست بالغة الفخامة, لكنها ذات نمط (موديل) حديث نسبياً, من التسعينيات, سوداء اللون, وقد تهشّم فيها جزء من المخزن, ومصباحها الخلفي الأيسر, كما تطايرت شظايا من الزجاج الذي اخترقه معدن المخزن, وقد لطف الله, فلولا وجود السائق وحيداً في السيارة لأصيب الركاب بكسور وجروح.


ولقد لمحت السائق بسرعة, كان شابّاً في الثلاثينيات, أصلحه الله! لم يكن ليقع هذا الحادث المزعج? آه لو أسرع قليلاً!!
أكملت مسيري في الطريق وأنا ساهم أفكر فيما جرى, وكلي خشية من أن يكون السائق قد رآني أو التقط رقم سيارتي.
توقفت في الطريق عند أحد محلات الميكانيك والكهرباء التي أتعامل معها, وأصلحت ما يمكن إصلاحه في المصابيح الأمامية, وبقيت بعض الأمور الفنية في المحرّك, قال المصلح إنها تحتمل التأجيل حتى المساء, فصممت بعد أن ألقيت بالخبز والحليب في المنزل على مواصلة عملي حتى المغرب.


وطوال جولاتي في المدينة, ابتعدت عن كل المخافر وحشرت سيارتي بين جموع السيارات في الشوارع كي تضيع وسط الزحام, فلا تكون فريسة سهلة تثير أرقام لوحتها انتباه أي ضابط مرور.


- إن كنت منزعجاً يا أخي, أستطيع ركوب سيارة أخرى وامض في حال سبيلك, لا أريد أن أعطّلك.


- ما هذا الكلام? بضع ليرات أكسبها لا تضيع هباء, كل شيء يوضع في الميزان وفي الحساب, كن هادئاً يا أخي, مادام طريقنا إلى خارج دمشق فلا تقلق! احتمال ضئيل أن الشرطة هناك على دراية بالأمر.


انقضت فترة صمت ثم لاح مفرق عربين فدخلته السيارة تتهادى بين الأشجار البرية, وقال زياد:


- ثالث مفرق على اليسار بعد المرور بالشارع الرئيسي.
- على عيني.


وأخيراً توقفت السيارة بعد أن دخلت المفرق الثالث, وقال أبو ماجد:


- مائة وعشرون ليرة أخي.

قال زياد وهو يفتح الباب نازلاً إلى الرصيف:


- أرجو ألا أكون قد أخّرتك عن التصليح, ولكن...

- يا سيدي... مائة وعشرون فقط, لا تضيّع وقتك بالنقاش, إنني مستعجل.

قال زياد:
- أنا أيضاً مستعجل وأريدك أن تذهب بي إلى مخفر الشرطة الآن.


- قال السائق وقد بدأ القلق يطفو على وجهه:


- لماذا يا حضرة المحترم?


- قال الشاب:


لأنني الشاب الذي صدمته هذا الصباح ولم تبال بالتوقف لترى وجهه أو لتعرف ما حدث لسيارته.

 


 

علياء الداية