من آين ينبع النيل الازرق!!

من آين ينبع النيل الازرق!!

نحن الآن في عام 1767, سفينة ضخمة تدخل ميناء الإسكندرية, وعليها رجل غريب الهيئة, ضخم الجثة وأحمر الشعر, ورغم ذلك فهو يرتدي الملابس العربية ويتحدث بها أيضا, لا أحد يعرف من أين جاء هذا الرجل على وجه التحديد, ولكنه كان يعرف ماذا يريد, وإلى أين يمضي, منذ أن هبط إلى الميناء وقد عرف نفسه لأهالي الإسكندرية أنه طبيب وفيلسوف,

هو قادم من بلاد الإنجليز البعيدة ليداوي المرضى, وقام بالفعل بمعالجة العديد من الشخصيات المهمة من الحكام العثمانيين والمماليك في المدينة وحصل على صداقتهم, ولكنه في السر كان يتدرب على إطلاق النار ويحمل معه بالفعل مجموعة كبيرة من البنادق والمسدسات لم تفارقه أبدا في أي مكان ذهب إليه.


كان العثمانيون الذين جاءوا من تركيا في هذا الوقت يحكمون مصر والعديد من أجزاء العالم. ولكن أوربا التي كانت تعيش حالة كبيرة من النهضة, تتأهب لتأخذ مكان العثمانيين في حكم العالم, وبلاد العرب كانت هي خطوتهم الأولى لتحقيق هذا الحلم, لذلك كانوا يريدون أن يعرفوا كل شيء عنها, وكان هذا الرجل الذي وصل إلى ميناء الإسكندرية ويدعى (جيمس بروس) واحدا من الذين كلفهم ملك إنجلترا في ذلك الوقت القيام بهذه المهمة.


ولكن جيمس بروس كان له حلمه الخاص, كان يريد الإجابة عن السؤال الذي كان مازال غامضا في ذلك الوقت, وهو من أين ينبع نهر النيل, فقد كان كل ما يعرفه العالم في ذلك الوقت عن هذا النهر الذي يأتي مخترقا مصر قادما من السودان, أنه ينبع من مكان ما في قلب إفريقيا, ولكن أين هذا المكان? وهل هناك بحيرات وشلالات? هل هو نهر واحد أو أكثر من نهر? لا أحد يعرف, وكان الحديث في أوربا عن اكتشاف نهر النيل يشبه تماما الحديث عن اكتشاف الفضاء والكواكب البعيدة في أيامنا هذه.


لم يكن بروس رجلا عاديا, نشأ في اسكتلندا في أسرة نبيلة, وتزوج من فتاة جميلة وثرية, ولكن القدر لم يمنحه السعادة فقد ماتت زوجته المحبوبة بعد أشهر قليلة من زواجه بها, وكان هذا سببا لأن يكره المدينة التي عاشا فيها وأن يسعى للبحث عن مكان آخر وأراد أن يجعل اكتشاف منابع النيل هو هدف حياته, لذا فقد بدأ بالرحيل إلى هولندا, وبدأ يدرس فيها اللغات الشرقية وكان يملك موهبة تعلم هذه اللغات بسرعة وبدقة, تعلم العربية, والأمهرية في وقت قصير, والأمهرية هي اللغة القديمة لبلاد الحبشة التي نطلق عليها أثيوبيا الآن.

الجزائر, الخطوة الأولى


وعندما عرف ملك إنجلترا جورج الثالث بحبه للشرق أرسله في مهمة إلى الجزائر ولكن (بروس) لم يستطع التكيف هناك, لذلك قضى معظم الوقت بها في تجويد لغته العربية وكذلك تعلم مهنة الطب, ثم قرر أن يترك الجزائر وأن يترك خدمة الملك وأن يبدأ رحلته لتحقيق حلمه على نفقته الخاصة, واشترى العديد من الأجهزة مثل المناظير, وأجهزة قياس الارتفاع, ولم تكن كاميرات التصوير قد اخترعت في ذلك الوقت, لذلك اتفق مع رسام إيطالي اسمه (بالوجاني) للذهاب معه ورسم المشاهد التي سوف يراها.


بدأ بروس رحلته من الجزائر إلى الإسكندرية وقضي بها بعض الوقت للحصول على التصاريح اللازمة للقيام برحلته داخل أفريقيا ثم رحل إلى أسوان آخر مدينة في جنوب مصر, كان يريد أن يواصل الرحلة جنوبا عن طريق النهر, ولكن الطريق كان مسدودا, فقد كان هناك العديد من القبائل التي تحارب بعضها بعضا في هذه المنطقة, وكان السير بينها يعرض حياته للخطر, لذلك لم يجد بدا من الاتجاه شرقا إلى ساحل البحر الأحمر حيث أخذ إحدى السفن الصغيرة لتقوده إلى (مصوع) الميناء الرئيسي لبلاد الحبشة, ولكن الرحلة طالت, وتعرضوا للجوع والعطش أكثر من مرة, ولم يصل إلى الميناء إلا بعد 5 شهور كاملة.

في قلب الحبشة


وفي مصوع أراد الحاكم التركي أن يستولي على كل ما معه, وأن يقتله إذا لزم الأمر, ولكن بروس أخذ يهدده بأن ملك إنجلترا وسلطان مصر هما من أعز أصدقائه, وأنه لو فعل فيه أي شيء فسوف يعلنان الحرب عليه, ومن حسن الحظ أن الحاكم قد صدقه وتركه يرحل بعد شهرين قضاهما في أسره, وبدأت رحلة بروس وسط جبال الحبشة المرتفعة والوعرة, ومن حسن حظه أنه تعرف على (ياسين) الحبشي المسلم الذي وافق على أن يصحبه إلى داخل البلاد.


كم مرة تمزقت أقدامهما وهما يواصلان الصعود إلى القمة, كم مرة سقطت منهما الأحمال وتعرضا لرماح القبائل الغاضبة ولعوائق الصخور, فهضبة الحبشة يبلغ ارتفاعها حوالي 6 آلاف قدم, تقطعها الأودية والأنهار والأخاديد الغائرة. كان بروس يريد الوصول إلى مدينة (عدوة) التي يوجد فيها حاكم البلاد أو (الراس) كما يطلقون عليه.

ولكن عندما وصل إليها بعد عناء شديد وجد الحاكم حزينا, فقد كان في حرب طويلة مع خصومه, ولم يكن هذا الذي يقلقه, ولكن ما يقلقه أكثر هو مرض أولاده بداء الجدري, وفي الحال استخدم بروس براعته في الطب ونظف الأماكن التي يوجد فيها الأطفال المرضى ووضعهم في أماكن جيدة التهوية وأعطاهم بعضا من الأدوية التي كانت معهم فتحسنت حالتهم على الفور, وقد رضي عنه (الراس) من جراء ذلك وسمح له بالتجول في أي مكان, ولم يكن بروس يريد أكثر من ذلك, ولكن بعد ذلك كله لم يكن الأمر سهلا, فهناك حكام كثيرون يكرهون (الراس) ويمنعون حركة بروس لذا كان عليه استخدام الحيلة معهم حتى يصل إلى أغراضه.

إلى المنبع العظيم


وأخيرا بدأت أهم رحلة في حياة بروس, الوصول إلى بحيرة (تانا) التي ينبع منها النيل الأزرق, في هذه البحيرة العظيمة تصب مياه الأمطار طوال العام, ومنها تتدفق المياه في شلال ضخم يسمى (تسي سات) لتكون منبع الأزرق العظيم, وقبل أن يصل بروس إلى هذه الشلالات بمسافة طويلة سمع صوت هدير المياه كدوي الرعد, فقد كانت المياه تسقط من على ارتفاع 40 قدما, وقد كون رذاذ الماء المتصاعد نوعا من الضباب الكثيف جعل النهر يبدو مثل كائن أسطوري, ويصف بروس المشهد قائلا: (لقد أصابني الذهول والدوار التام, ولا اعتقد أن هذا المنظر سوف يمحى من ذاكرتي أبد الدهر, فهو أروع ما شاهدت في حياتي على الإطلاق).


لقد ظل بروس بجوار البحيرة العظيمة يقيس زوايا الارتفاع, ومعه الرسام (بالوجاني) يرسمان النهر والقبائل التي تسكن بالقرب من هذه البحيرة, واكتشف أن الأهالي يطلقون عليه (أبا وينزا) أي النهر المقدس ويرون في مائه القدرة على الشفاء من أي أمراض وكان على بروس أن يدور طويلا حول البحيرة وما يحيط بها من غابات وما فيها من قبائل شرسة, حتى استطاع أن يحدد شواطيء نهر النيل,

ولكنه لم يكن يعرف أن هذا النهر هو واحد من نهرين, هذا هو الأزرق وسوف يمتد لحوالي 500 كيلومتر قبل أن يتحد مع نهر آخر هو النيل الأبيض عند العاصمة السودانية الخرطوم. ليكون مجرى النيل الرئيسي الذي سوف يسير بعد ذلك إلى مصر وإلى القاهرة التي تبعد 2000 كيلومتر.

قضى بروس عدة شهور في البحث والدراسة وكتب أول كتاب عن الشعب الأثيوبي, وجمع العديد من الوثائق وعينات النباتات والمعادن وانتهت رحلته بعد خمس سنوات كاملة, ورحل بروس إلى القاهرة, ولكنه أصر على السفر جنوبا إلى الخطروم حيث رأى النقطة التي يلتقي فيها النيلان الأبيض والأزرق,

وأصر على أنه هو وحده الذي اكتشف النيل وأن هذا النهر الآخر هو نهر غريب لا علاقة له بالنيل, وقضي عدة شهور في السودان يحاول اكتشاف روافد النهر وهو جالس على ظهر جمل, ولكن جسمه الضخم شعر بالإرهاق, وأحس أن الرحلة قد أصابته بالعديد من الأمراض, وفضل أن يعود إلى انجلترا بعد أن غاب عنها 11 عاما كاملا.

لم يقدره أحد


ولكن المدهش في الموضوع أن أحدا في إنجلترا لم يصدق أي قصة من القصص التي رواها بروس, لقد استقبله الملك حقا وتسلم منه كل الرسوم التي قام الفنان الإيطالي برسمها ومع ذلك لم يحظ بأي اعتراف رسمي, ولم تصدق الجمعيات العلمية أنه قد اكتشف منابع النيل ونقدوا الكتاب الذي كتبه عن الحبشة نقدا قاسيا, واتهموه بأنه كتب فيه قصصا خيالية,

وربما كان السبب في ذلك أنه لم يكن لديه آلات للتصوير يصور بها حتى تكون دليلا ماديا على صدق كلامه, كما أن السبب هو نفسه عندما أنكر وجود الرسام بالوجاني معه في اللحظة التي رأى فيها منابع النيل, وزعم أن الرسام قد مات قبلها, لقد أراد أن يكون له الفضل وحده وكانت النتيجة أن أحدا لم يصدقه.


ولكن فيما بعد, وعندما تواصلت الاكتشافات, أقرت الجمعيات العلمية بكل المعلومات التي أوردها بروس, وأدركوا أنه كان واحدا من الرحالة العظام الذين اكتشفوا أعماق إفريقيا ولكن هذا الاعتراف جاء متأخرا بعد أن فارق بروس الحياة.