حسن الصباح.. بالون من ورق وشموع

حسن الصباح.. بالون من ورق وشموع

رســــوم: نـــــادي

تغيرت العادة المسائية اليومية بين الأم وابنها. ففي كل ليلة, كانت الأم تجلس إلى جوار ابنها وتروي له قصة خيالية مسلية. لكن هذه الليلة, هاهو الصغير (حسن) يروي للأم قصة واقعية أغرب من كل الخيال. فقد اكتشف العلماء أن الكهرباء التي تسري في الأسلاك, يمكنها أن تولد الطاقة, وأن تحرّك أشياء كثيرة في العصر الحديث.


قال حسن:
- هذه الطاقة أقوى من الفرسان والأبطال. وتجعل السيارات تنطلق في الشوارع, والطائرات تطير في السماء.
وانتقلت الدهشة الى الأم, وبدأت تستمع كل يوم إلى المزيد من القصص العلمية المدهشة من ابنها (حسن كامل الصباح), وبدأت السيدة (فاطمة رضا) تقرأ في الكتب العلمية التي ملأ بها ابنها الصغير غرفته الصغيرة.


وكانت أسعد الأمهات بالنبوغ المبكر الذي ظهر على ابنها.


لكن ترى من هو بطلنا اليوم, والذي صار قدوة علمية للطفل العربي?


اسمه: حسن كامل الصباح.
قليلون هم الأطفال الذين أتيحت لهم الفرصة نفسها للتعلم والنبوغ. فأبوه مثقف متنوّع المعارف, والثقافات, هو الحاج (علي الصباح), وهو الذي اشترى الكثير من الكتب, والألعاب للابن الصغير, وقال له:


- سوف تجد هنا ما يجعلك أفضل من كل أصحابك.
وفي سن صغيرة, اكتشف (حسن) أن أهم سمة في العظماء أنهم عانوا الكثير, لكنهم لم يفقدوا الأمل يوماً ما. وراح يسأل يوما: أماه, كيف يكون الانسان قدوة للآخرين?


وعرف من الأم أن جده الأكبر, الذي يعود نسب الأسرة إليه, هو الفيلسوف الرياضي المعروف (يعقوب بن الصباح), الذي كان من أشهر الفلاسفة في العصر العباسي.


قالت له الأم: وهي ابنة العلامة الشيخ (علي رضا): سوف تكون يوماً من المشاهير الذين تقرأ عنهم. خاصة العلماء.


وبدأت أحداث القصة عام 1903 حين كان (حسن) في التاسعة من العمر, حين دخل الصغير على أمه وقال: هل تعطيني نقوداً?


وكعادتها منحته المبلغ الذي يكفيه لشراء ما يريده, لكن (حسن) طلب عشرة أضعاف ما أعطته الأم, وقال: سوف أشتري شيئاً مفيداً.


ولأن الأم تعرف أن ابنها ليس مسرفاً بطبعه, فقد منحته ما طلب, وبعد قليل عاد حاملاً الكثير من الورق المقوّى, وبعض الآلات الصغيرة, ثم دخل غرفته, وأغلق الباب على نفسه لساعات طويلة وسط تساؤلات الأم عمّا يفعله الصغير وحده, وعندما خرج كان يحمل بالوناً ضخماً في طرفه شمعة كبيرة مشتعلة, ثم خرج إلى الطريق ونادى أمه قائلاً: تعالي.. انظري.. إنه أول صاروخ عربي.


وداس على زر صغير في طرف البالون, فانطلقت الشمعة المشتعلة إلى أعلى حتى اختفت عن الأعين, وسط دهشة الأم, والابن يردد:


- لقد ذهبت الشمعة إلى المريخ, سوف ألحق بها يوماً ما, بعد أن أستكمل تجاربي في الكهرباء.


وذاع صيت الحادث في المدينة الصغيرة. فالطفل (حسن الصباح) أطلق صاروخاً إلى عنان السماء, مثلما فعل أبطال رواية فرنسية جديدة في تلك الفترة تحمل اسم (أول رحلة إلى القمر).

الحياة مغامرة


وعرف الصغار أن زميلهم لا يكف عن القراءة, فبالإضافة إلى حفظ الكثير من سور القرآن الكريم, فهو يقرأ في العلوم والتاريخ, والكثير من قصص المغامرات, وقال لأمه يوماً: اكتشفت أن الحياة مغامرة كبيرة.


وصارت حياته التالية فعلاً مغامرة, أساسها البحث عن المجهول, ففي الوقت الذي يشكو فيه زملاء الفصل من صعوبة مناهج العلوم والرياضيات, كان (حسن الصباح) يشتري الكتب كي يعلم نفسه هذه العلوم الصعبة, خاصة الجبر. ويقول لأقرانه:


- إنها ألعاب.. لو تعاملنا معها على أنها ألعاب سوف نحبها ونفهمها بسهولة. وذاع صيته في كل أنحاء المدرسة, وأطلقوا عليه (حسن العبقري), بل إن أحد الأساتذة أطلق عليه: (حسن سابق سنه).


فذات يوم, اكتشف المدرس أن حسن يقوم بشرح إحدى المسائل الرياضية الصعبة لمجموعة من التلاميذ الذين يسبقونه في سنوات الدراسة. ويومها لاقى التلاميذ الكبار من التوبيخ بقدر ما نال (حسن) من مديح وتكريم.


ونبغ في علوم الرياضيات, وقال:
- الرياضيات أساس التفوق في العلوم, مثلما حدث للعلماء العرب القدامى, وعلماء الغرب المعاصرين.


ومرت المغامرات العلمية مع الزمن بالصبي العبقري, وهو ينتقل من مرحلة دراسية إلى أخرى, ومن مدينة إلى أخرى, ومن كتاب يطالعه إلى آخر, ورأى أن الكتب بمثابة رحلات لا تخلو من مغامرة شائقة.


وبدأت أولى رحلاته خارج الوطن, حين سافر عام 1920 إلى استانبول في تركيا, وهناك عمل مدرساً للرياضيات, لكنه لم يشعر بأنه قد بلغ ما يريده, فسافر إلى بارس, وتقدم بطلب لدراسة الحديث من الرياضيات في باريس.


لكن طلبه قوبل بالرفض من قبل المفوّض الفرنسي. وقرر (حسن) أن يستكمل الدراسة عن طريق المراسلة, كانت أمه هي أكثر الناس قرباً منه في تلك الفترة, فراحت تشجّعه على متابعة اتصالاته بالجامعات الأمريكية عن طريق المراسلة, إلى أن جاءت موافقة إحدى الجامعات.


وجاء وقت الرحيل, ونجح الأب أن يدبّر للابن بعض المال كي يسافر إلى مدينة (نيويورك), وسط ظروف مالية صعبة, لم تساعده في الاستمرار طويلاً, وقرر الانتقال إلى جامعة أخرى, ذاع صيته فيها بأنه (الشاب الشرقي العبقري).

خبير الكهرباء


وذات يوم جاءه مندوب من إحدى الشركات الكبرى المتخصصة في إنتاج المصنوعات الكهربية, وقال له: سنعرض عليك أجراً مغرياً مقابل أن تنضم إلينا. ورغم الضائقة المالية, التي يعاني منها الشاب, فقد أجّل هذا الطلب إلى بعد أن انتهى من الدراسة عام 1923.


وصار (حسن الصباح) أول عالم عربي في القرن العشرين يعمل خبيراً في إحدى الشركات الأمريكية الكبرى المتخصصة في الكهرباء.


وانبهر زملاؤه الأمريكيون بما حققه من إنجازات, وإضافات للمنتجات الكهربية التي كانت تنتجها شركة (جنرال إلكتريك), ومن بينها السخان الشمسي الذي اشتهر في تلك السنوات كمعجزة علمية.


واستطاع (حسن) اختراع بطارية كهربية متطورة تولد الطاقة الكهربية عندما توضع البطارية في مكان مشمس. فتمكن بذلك أن يجعل السخانات الشمسية أرخص سعراً, وأكثر انتشاراً.
وصادق كبار علماء الذرة في تلك الفترة, مثل (رزرفورد), وكتب بحثاً عن الانشطار النووي, وأكّد أن انشطار النواة يسبب اطلاق طاقة كهربية كبيرة كفيلة بتفجير مدينة ضخمة مثل (نيويورك), وهي نفس النظريات والتطبيقات التي توصل إليها, في الوقت نفسه, العالم الشهير (إلبرت إينشتاين).


ولأنه منذ طفولته كان واسع الاطلاع, فإن (حسن الصباح) قد ساهم في العديد من الاكتشافات العلمية المهمة, منها نجاحه في بث الصورة من جهاز إرسال إلى جهاز استقبال يبعد عنه كثيراً, وهو الاختراع الذي عرف فيما بعد باسم (التلفزيون) ونسب اختراعه إلى العالم الأمريكي (جون بيرد) عام 1936, أي بعد وفاة عالمنا العربي بعام واحد فقط.


وذات يوم كان في رحلة جوية داخلية بين المدن الأمريكية, وراح يتطلع إلى أعلى وقال لزميله العالم الأمريكي الذي كان إلى جواره:


- كم أحلم أن أركب طائرة بها محرك من اختراعي, يمكنها من الطيران في أجواء السماء العالية. وأن تزيد سرعتها عن الألف كيلومتر في الساعة, فتقطع المسافة بين القارات في أقصر وقت ممكن.


وبعد أسابيع قليلة, عكف في معمله على تطوير محرّك الطائرة المدنية كي تنطلق بالسرعة التي يحلم بها. لكن الأمر لم يكن سهلاً, خاصة بالنسبة لشاب عربي نابغة, يحب وطنه الذي جاء منه, وتربّى فيه. ورغم بقائه في الولايات المتحدة الأمريكية لأكثر من اثنى عشر عاماً, لكنه كان يحلم بنقل كل هذه التقنيات إلى بلاده من أجل الاستفادة مما شارك هو في تقديمه للغرب من منجزات لكن. هل يمكن للشاب أن يحقق الحلم بسهولة?


ذات يوم كان يتحدث بما يتمنى إلى زميل أمريكي, وقال له إن بلاده العربية الصحراوية, سوف تستفيد كثيراً لو عاد إليها وأهداها ما توصل إليه من فكرة السخان الشمسي الذي يعتمد على توليد الطاقة من الشمس, وقال:


- ما أوسع الصحراء في وطني. وما أشد قوة الشمس.
وأرسل إلى أكثر من حاكم عربي في تلك الآونة (يعرض عليه فائدة اختراعه, وجاء الرد من الملك عبدالعزيز آل سعود, متضمنا: (أهلا بك في وطنك).


وقبل رحيله طلب منه صديق يهودي أن يبادله ركوب سيارته, ووافق العالم العربي الشاب, وقام بقيادة السيارة, وانطلق بها في طريق جبلي وعر, وفجأة أحسّ أن عجلة القيادة ليست تحت سيطرته.


واندفعت السيارة مجنونة نحو المنحدر, وهوت بصاحبها إلى الأعماق.


وفي أسفل الجبل, دفن الحلم العربي القديم. إنها القصة نفسها التي تكررت فيما بعد, مع العديد من العلماء العرب النابغين في الذرة. ومنهم الدكتورة سميرة موسى بعد ذلك بثمانية عشر عاماً.
أي عام1953.

 


 

محمود قاسم