السير الشعبية ملاحم وبطولات عربية

السير الشعبية ملاحم وبطولات عربية

أبوزيد الهلالي سلامة, الزير سالم, عنترة بن شداد, الظاهر بيبرس, حمزة البهلوان, الأميرة ذات الهمة, هل سمعت بهذه الأسماء, هل مرت عليك وأنت تشاهد أحد الأفلام أو المسلسلات التي يعرضها التلفزيون, إنها اسماء قديمة لأبطال مختلفين عاشوا في فترات متباعدة في تاريخ أمتنا العربية, احتفظت بها الذاكرة الشعبية وصنعت لها تاريخها الخاص الذي يختلف كثيرا عن التاريخ كما يرويه المؤرخون وأطلقت الذاكرة الشعبية على ذلك التاريخ لقب السير الشعبية, فما هي السير وما هي قصة هؤلاء الأبطال?

منذ زمن بعيد, وقبل أن يظهر المذياع وتنتشر أجهزة التلفزيون, كان الذي يسهر مع الناس ويبعث التسلية في لياليهم الطويلة رجلا قوي الذاكرة, عذب الصوت هو (الراوي) أو الحكواتي كما يطلقون عليه, ففي كل ليلة كان يأتي هذا الرجل, إلى مضارب القبائل النائية في الصحراء, أو إلى القرى العربية الفقيرة, أو حتى إلى مقاهي وبيوت المدن الكبرى يحمل في يده قيثارة ذات أوتار قليلة ويبدأ في العزف عليها وهو يغني أحيانا ويتوقف ليروي في أحيان أخرى, يرتفع صوته عاليا عندما يصل إلى مواقع القتال والصدام, ينخفض حين يعود أبطاله ليجلسوا مع أطفالهم ومحبيهم, وفي كل الأحوال يتابعه المستمعون بنفوس متشوقة يريدون فيها أن يعرفوا نهاية القصة ولكن الراوي الذكي لا ينهي القصة في ليلة واحدة أبدا, فالقصة طويلة ومليئة بالتفاصيل المثيرة وهو يأخذ معه المستمعين إلى أقصى النقاط إثارة فيها ثم يتوقف فجأة ليكمل في اليوم التالي.

السيرة وفنها

هذا الراوي يملك ثروة حقيقية هي السير الشعبية ومعنى السيرة هنا هو سرد وقائع حياة شخص من الأشخاص (وهي في الغالب تحكي قصة حياة شخص وتنقسم إلى نوعين, إما سيرة عن حياة شخص يكتبها غيره, أو يقوم الشخص نفسه بكتابة قصة حياته فتسمى سيرة ذاتية, وأشهر السير في الأدب العربي على الإطلاق هي سيرة النبي عليه الصلاة والسلام التي كتبها ابن هشام وهي المصدر الأول الذي كتب منها الجميع كل الكتب التي تناولت حياة الرسول الكريم.

أما السيرة الشعبية فهي حكاية طويلة, بل إنها أطول الحكايات على الإطلاق, فهي لا تروي حياة بطل واحد ولكنها تتعرض لكل الأبطال الذي التقى معهم أو حاربهم, كما تروي تاريخ قومه وقبيلته, وهي تروى بالنثر ولكن تتخللها أبيات من الشعر المؤثر الذي يهز النفس, وتأليف السيرة الشعبية لا ينسب لمؤلف واحد ولكنها تنسب إلى كل الشعوب العربية, فالناس هم الذين يتوارثون السيرة جيلا بعد آخر, ويضيفون إليها في كل مرة أحداثا جديدة, ويعتبرونها معبرة عن المثل التي يؤمنون بها والتقاليد التي يسيرون عليها, لذلك فإنها ملك العرب مع اختلاف بيئاتهم, لا توجد سيرة مصرية أو سورية أو مغربية, بل توجد سيرة هي نتاج الخيال العربي كله.

وقد اختفت كثير من السير الشعبية العربية, ولكن بقيت سبع سير منها, وهي السيرة الهلالية, وسيرة الزير سالم, وسيرة عنترة بن شداد, وسيرة الملك سيف بن ذي يزن, وحمزة البهلوان, والأميرة ذات الهمة, والظاهر بيبرس وكلها أسماء لشخصيات موجودة بالفعل في التاريخ العربي ولكن الحس الشعبي رأى أنه لا يكفي أن يقول فيها كتاب التاريخ الرسمي فقط ولكن يجب أن يقولوا هم أيضا رأيهم وأن ينسبوا إليهم البطولات التي تليق بمكانتهم, وتثير كل سيرة قضية من قضايا المجتمع في مرحلة تاريخية, ويمكن القول إن هذه السير يمكن أن تتكامل معا لتصير نوعا من التاريخ المتصل الذي كتبه الشعب من أجل أبطاله الذين يحبهم.

عنترة وأبوزيد

عنترة بن شداد هو أشهر فرسان السير الشعبية, إن سيرته تحارب التفرقة العنصرية والعبودية في وقت كانت هذه الأشياء منتشرة ولا تجد من يحرمها, لقد كان عنترة عبدا أسود, كان أبوه (شداد) هو سيد قومه من قبيلة بني عبس وقد أنجبه من جارية سوداء, ولكنه رفض الاعتراف به وتركه يرعى الغنم مع بقية العبيد, ولكن عنترة لم يرض بهذا الواقع المهين ولقد كان شاعرا وفارسا وفوق ذلك كله كان يحب ابنة عمه (عبلة) ويريد أن يتزوج منها, ولكنه كان في نظر قبيلته مجرد عبد لا يجيد مسك السيف, ولا يمسك سوى العصا التي يهش بها على الغنم, لذلك فقد قابل عمه رغبته في الزواج من ابنته بالسخرية والاحتقار, إلا إن عنترة لم يستسلم فقد كانت إرادته قوية. وفي ذات يوم كان رجال قبيلة بني عبس كلهم غائبين عن القبيلة عندما هجم الأعداء وأخذوا كل النساء ـ بمن فيهن عبلة ـ أسيرات, وكاد أن يقضى على شرف القبيلة لولا أن تصدى لهم عنترة بمفرده وألقى العصا وحاربهم بالسيف وحرر النساء جميعا, لذلك لم يكن أمام القبيلة إلا أن تعترف به فارسا, ولكن عمه ظل يواصل رفضه لطلب عنترة بالزواج من عبلة, ولكي يضع العقبات أمامه طلب منه أن يكون مهر ابنته مائة من النوق الحمر, وهي نوع نادر من الجمال لا يملكه إلا الملك النعمان الذي يحكم بلاد (المناذرة شمال الصحراء), وهكذا بدأ عنترة رحلته المثيرة بحثا عن المهر, وهذه الرحلة هي التي تستغرق كل صفحات السيرة ومن خلالها نعرف أخلاق عنترة ونبل نفسه وشهامته في إنقاذ الضعفاء ومد يد المعاونة, وهي كلها صفات جعلته واحدا من أحب الشخصيات إلى قلوب عشاق السير العربية.

أما سيرة بني هلال فهي ليست سيرة فرد واحد, بل هي سيرة قبيلة بأسرها, فقبيلة بني هلال التي كانت تسكن في الحجاز قد أصابها جفاف قاتل وأصبحت على حافة الموت جوعا وعطشا, ولم يكن هناك بد من أن تهاجر القبيلة كلها بحثا عن أرض أخرى أكثر خصبا, وسر جمال هذه السيرة أنها تعتمد على طقس كانت تقوم به كل القبائل العربية, وهي سعي الإنسان رغم كل ما يواجهه من صعاب من أجل تلبية حاجاته الأساسية, وقد ربطت السيرة بين العديد من البلاد العربية, لأن رحلة بني هلال بدأت من الصحراء ثم إلى سوريا وفلسطين ثم هبطت إلى مصر وسارت شرقا حتى أسوار مدينة (تونس) الخضراء التي أخذت هذا اللقب منذ ذلك الوقت, وطوال هذه الرحلة برز العديد من الفرسان مثل أبوزيد الهلالي سلامة الذي كان فارسا شجاعا, ولكنه كان مثل عنترة يعاني من لونه الأسود ويسعى إلى اثبات نفسه, وكذلك الفارس دياب بن غانم وهو أيضا فارس نبيل, شارك أبو زيد في العديد من المغامرات وقد تحول التنافس بينهم إلى نوع من العداء, وكذلك كانت هناك الجازية أجمل نساء القبيلة التي كانت تقف وراء أبو زيد ولا تكف عن تشجيعه, وهناك أيضا الزناتي خليفة, حاكم تونس الذي حارب بني هلال طويلا قبل أن يستطيعوا هزيمته.

تنافس الأبطال

ولأن أبطال السيرة الهلالية كثيرون بعكس السير الأخرى التي تدور حول بطل واحد فإن الذين يستمعون إليها دائما ينحازون إلى بطل ضد بطل آخر, وأحيانا يتحول الأمر إلى مشاجرة بين أنصار أبوزيد وأنصار دياب, تماما كما يحدث في مباريات كرة القدم هذه الأيام, وعلى الراوي أن يكون عادلا في تقسيم البطولات بين الفارسين وإلا أخذ نصيبه من الضرب أيضا.

وأهم شي في السيرة أنها لا تقرأ على انفراد, إلا لمن يريد دراستها, ولكنها تقرأ وسط جمع من الناس حيث يتم التفاعل بين الراوي والجمهور, ولا يستطيع الراوي أن يعرف السير كلها, ولكن كل واحد منهم متخصص في سيرة معينة يجيد روايتها, وتنفرد السيرة الهلالية عن كل السير بأن الذي يرويها يطلق عليه لقب (الشاعر), نظرا لغلبة الطابع الشعري عليها وهي تحتاج من الشخص الذي يقوم بإلقائها أن يكون حسن الصوت جيد الغناء, وقد قام الشاعر المصري المشهور عبدالرحمن الأبنودي بتتبع هذه السيرة وتسجيل كل الذين يقومون بروايتها قبل أن تختفي وتنقرض, وقد قام هذا الشاعر بمجهود عظيم كلفه أن ينتقل بين القرى والمدن المختلفة لا في مصر وحدها ولكن في كل البلاد التي ذكرت في سيرة بني هلال مثل بلاد الشام وتونس ولولا هذه الجهود لاختفت هذه السيرة الجميلة من الذاكرة العربية.

 


 

محمد سيف