يوم البحار.. استراحة في ظلال الماضي

يوم البحار.. استراحة في ظلال الماضي

بدت أمواج الخليج خضراء ومائلة للزرقة عندما أخذت خط البحر متجهة شمالاً حتى لاح مبنى مجلس الأمة على يساري شامخاً في هدوء, وأمامه توجد قرية بيوتها صغيرة مطلة على الخليج, كانت هي أيضاً تبدو هادئة, توقفت عندها وبخطى مسرعة دخلت وسط بيوتها انها قرية (يوم البحار) التراثية التي تحمل ملامح ماضي الكويت ببساطتها وساحاتها الترابية ومبانيها الكويتية القديمة, ولهذا سميت بهذا الاسم. فبزيارتها نقضي يوماً من أيام الماضي التي كان يقضيها الكويتيون القدامى من البحارة والغواصين.

سرت بين صفوف البيوت القديمة وتوغلت داخل القرية حتى تناهى إلى مسمعي صوت الأطفال وهم يتراكضون ويركبون الألعاب الشعبية القديمة مثل لعبة (القليلبه) وهي عبارة عن عربات صغيرة يجلس في كل مقعد طفلان, وتدور للأعلى كالساقية, وهناك لعبة أخرى تدور كالقرص, عليه مقاعد صغيرة لجلوس الأطفال فيها.

ويحب الأطفال المراجيح المجسّمة على أشكال مختلفة مثل السيارة أو البوم الكويتي القديم يجلس الأولاد في ذلك المجسم, ويقوم شخص آخر بدفع السيارة أو البوم أو الطائرة حتى تصعد للأعلى وتعود مرة أخرى, وكلها ألعاب قديمة شعبية لا تتمتع بأي نوع من أنواع التكنولوجيا الحديثة, وهنا المتعة فيها, فهي تعتمد على القوة اليدوية بعيداً عن التعقيدات الكهربائية الحديثة, ويقوم الرجل الذي يدفع اللعبة بأداء الأغاني مستمتعاً, ومن يسر بالقرب منهم يستمع إلى العديد من الأغاني التراثية التي يستجيب الأطفال لها ويرددونها مع صاحب اللعبة, مما يزيد حماس الرجل فيقوم بدفعها بكل عضلاته وبقوة أكبر.

المقهى الشعبي

وعلى مسافة ليست بالبعيدة عن ألعاب الأطفال يقع المقهى الشعبي المخصص عادة لكبار السن رجالاً ونساء, فيه جلسات هادئة يلتقي فيها الأهل والأصدقاء معاً بحنين للماضي بهذا الجو الأسري الرائع الذي يحمل الدفء والمودة, وتدار أكواب الشاي المصنوع على الفحم.

كما توجد وجبات مطبوخة على الفحم مثل الكباب والكفتة والريش وما إلى ذلك من المشاوي, ومن الأكلات الشعبية التي يفضلها روّاد المقاهي الشعبية (النخّي والباجيلا) والنخي هو الحمص المسلوق, أما الباجيلا هي الفول المسلوق, عادة ما يفضل الناس هذه الأطباق في فصل الشتاء لأنها تشعر المرء بالدفء وتقوّي الجسد.

إضافة إلى الخبز المحلي وهو (خبز الرقاق) والمصنّع أمام العين على أداة كانت تستخدم للخبز قديماً في الكويت وتسمى (التاوه) وهي عبارة عن موقد ناري دائري الشكل ومغطى بدائرة حديدية سوداء مقعّرة, بعد تجهيز العجين يأخذ الخبّاز كمية منه بيده ويفردها على سطح التاوه الساخن بيده التي كان قد بللها بالماء مسبقاً ليحميها من الحرارة وليمنع التصاق العجين بها, ولا يتطلب الأمر وقتاً طويلاً كي تنضج, فهي لرقتها تكون جاهزة للأكل حال ملامستها للسطح الساخن, وأكثر ما يفضله الجميع هو إضافة البيض والسكر على سطح الخبز الرقاق وهو لايزال على (التاوه) وحالما ينضج يقدم للمرء وجبة لذيذة ومفيدة وساخنة.

وتباع أيضاً الذرة المشوية والحلويات الكويتية مثل (الرهش والحلوى والدرابيل), وهي من أشهر الحلويات القديمة.

وأمام المقهى الشعبي تصطف عربات تجرها الحمير يستمتع الأطفال بركوبها لتوصلهم من مكان لآخر, ولأخذ جولات في قرية يوم البحار ما بين قسم الألعاب والمقهى الشعبي وسفن البوم الكويتية والمحلات الشعبية المنتشرة فيها.

عاشق التراث

تتعدد المحلات الموجودة في قرية يوم البحار, فكثير منها يشمل الاكسسوارات والتحف المنزلية والحلي النسائية وألعاب الأطفال ومستلزمات الأسرة, كما أن هناك محلاً لبيع الطيور ومحلاً آخر لبيع (السدو) بأشكاله المختلفة وألوانه الجذّابة التي تميل للبيئة البرية الكويتية. وما يلفت الانتباه ما وجدته في محل متميز يحمل الكثير من الطابع الكويتي, فصاحب المحل جمال العلي يقوم بتجسيد البيئة الكويتية القديمة على شكل مجسمات صغيرة يعرضها في دكانه الصغير, ويقول عن عمله: (بدايتي كانت مع بداية بوم البحار في سنة 1986م, وأنا أدير هذا الدكان بنفسي وأقوم بعمل جميع مجسمّاته يدوياً دون مساعدة من الغير, وهذه الأعمال تصوّر حقبة زمنية مرّت على الكويت في السابق).

من الجميل تأمل التفاصيل الدقيقة التي قام بتجسيدها فنان التراث الشعبي الذي استوحى الأفكار من الطبيعة, ومما قرأه في الكتب التاريخية عن أهل الكويت وحياتهم من بيوت ومهن كـ(الحداد) و (النجار) و (البنّاي) و (الكندري) الذي يقوم بنقل المياه في السابق للمنازل, و (القلاف) الذي يقوم بصناعة السفن. فهو يقوم بهذا العمل كهواية يحبّها ويتقنها ويخلص فيها لما تمثله من آثار الكويت الماضية, ويقول إن الجيل الحالي لم يدرك هذه الأمور, لذا يرى أن عليه أن يقوم بتصوير الماضي واستنساخه بالمجسّمات حتى تصبح الصورة حقيقية وتتواصل الفكرة عبر الأجيال. فهي رسالة تذكّر الجميع بما كان عليه أجدادنا في السابق.

كنوز تحت أقدامنا

سعد سلطان السالم رجل كويتي يعيش في منطقة الفنطاس بدولة الكويت, كان يسير ذات يوم على ساحل الفنطاس تاركاً قدميه للمياه تداعبهما ويرمي بنظره إلى تلك الأصداف والقواقع الجميلة المتناثرة من حوله حاملاً معه المذياع يستمع إلى المذيعة, وكانت تقدم نصائحها بشأن الشباب والصيف وأهمية استغلال وقت الفراغ والاستمتاع بالبحر, لمعت بين بنات أفكاره فكرة جمع هذه القواقع المنسية والموجودة تحت أقدامنا منذ آلاف السنين, وربما قبل وجود البشرية على سطح الأرض, فتاريخ القواقع قديم كان لها استخدامات عدة حيث استخدم الودع الإفريقي النادر الجميل كعملة نقود ردحاً من الزمن وفي الكويت كانت تزيّن بها هوادج الجمال.

جمع الآلاف منها وبدأ العمل, نحن نعلم أن القواقع والأصداف هي مساكن لحيوانات رخوية, لذا كان لابد له من تعريضها لأشعة الشمس بعد غليها حتى لا تتعفّن, ثم قام بتصنيفها معتمداً على التشابه بين الأشكال والفصائل, ويقول الأستاذ سعد السالم: (هذه الهواية دفعتني بعفوية إلى طريق الفضول العلمي, فقمت بدراسة تصنيفية للقواقع والبحث عن أسمائها باللهجة المحلية واللغتين العربية والإنجليزية. وهذه الدراسة علّمتني أن القواقع تختلف أسماؤها وألوانها وأحجامها في أغلب البحار, فمثلاً في الكويت تسمى القوقعة الكبيرة باسم (شفيق), بينما تعرف في مصر بـ(الزورق)).

ويستخدم السالم أدوات بسيطة جداً وغير مكلفة في هوايته هذه كالمبرد لتنظيف القواقع وفرشاة مسطرة ومقراضة (جلابتين) ورنده للتنعيم مع صمغ. وبقليل من الفكر والفن والصبر قرر تصميم لوحات سهلة وبسيطة في رأيه, وإنما هي روائع في الحقيقة لها مدلول ومعنى بقت ماثلة أمام الأعين تروي قصة استثمار بعض الفراغ بما يوحي للمشاهد مستقبلاً باستغلال هذا الوقت واستثماره, فقد قام بتمثيل الكويت خير تمثيل بنماذج متصلة بالبحر والبادية والتراث والحياة العصرية, كما بنى مجسّمات على شكل أشخاص ومساجد ومآذن وطيور وغيرها في منتهى الدقة والجمال في عمل يستحق الإعجاب, وهكذا ازداد حبّه لدنيا القواقع التي كانت مدخلاً لمتعة الروح والنظر والنفس معاً. فرسم آيات من القرآن الكريم وأسماء الله الحسنى وكلمات بحمد الله وتسبيحه. يقول السالم: (إن أولادي أخذوا يراقبونني وأنا أرتب قطع الأصداف والقواقع بجوار بعضها البعض لتشكيل منظر معين ليعرفوا كيف تلصق وتثبّت كل هذه القطع, وشعرت كأنهم يلتقطون سر الصنعة بشغف كبير. ومع مرور الأيام لاحظت تطوّراً كبيراً في سلوك الأولاد حيث كانوا يخرجون لجمع ما يستطيعون من القطع الزاهية الصحيحة حريصين على جمع الأحجام المختلفة مما أكد لي تحرّك أشجانهم الفنية وتفتح حواسهم), واستمر الأولاد في العمل مع أبيهم في البيت حتى ازداد الكمّ وقد شجعه أصدقاؤه وزوّاره على إنشاء متحف صغير متواضع لعرض اللوحات, وكان ذلك في منزله, وزاد إقبال العامة شيئاً فشيئاً. وبعد فترة بدأت أجهزة الإعلام تتحدث عن هاوي كنوز البحر وازداد اهتمامها بزيارة مندوبين من الصحف والمجلات والتلفزيون لمشاهدة المتحف وسماع قصة الهواية الصغيرة التي شغلت الفراغ الكبير, وكان ذلك دافعاً كبيراً للعمل, بعدها انتقل إلى القرية التراثية بـ(يوم البحار), بدافع من وزارة الإعلام حيث يتسنى للوفود الرسمية والضيوف والسيّاح زيارته في هذا المكان للتعرف على ثمار التجربة ملموسة ومرئية أمامهم مرتبطة بتراث الآباء والأجداد.

يقول السالم: (هوايتي لا تكلف الكثير إلا أن ما ترمز إليه يعني الكثير, فالأصل في الحياة الإنسان, فليس بالخبز وحده يحيا ولا بالدينار, فالمادة زائلة وغير ذلك يبقى في القيمة وفي الذكريات).

 


 

وفاء شهاب

 




مراجيح قديمة وعربات تجرها الحمير، وتطل عليها المباني الحديثة





أحد الأسواق في يوم البحار وقد صمم على الطراز الكويتي القديم وهو عبارة عن ممر مغطى وتقع الدكاكين على جانبيه





بعض الأدوات القديمة مجسمة بأيدي العلي





مجسم لدار تحفيظ القرآن قديما من أعمال العلي





تنتشر الدكاكين الشعبية على طول القرية





الخبز الرقاق يعد يوميا طازجا وحسب الطلب











مجسم لمسجد من القواقع والزبابيط وهو أحد أعمال سعد السالم