أم ليوم واحد!

أم ليوم واحد!

- لماذا أنت سريعة الغضب يا أمي?.

باغتت سامية أمها بهذا السؤال في إحدى الليالي الذي استنكرته الأم بشدة, ردت عليها أمها:

- لا أستيطع أن أحافظ على هدوئي دائماً خاصة عندما تخرجن أنت وأخواتك الأربع عن طاعتي.

ردّت سامية بثقة: لن أكون سريعة الغضب مثلك إذا أصبحت أمّاً!

ابتسمت الأم ابتسامة غريبة, وقالت بتحد: ما رأيك لو عقدنا صفقة?

- أي نوع من الصفقات?

- ستصبحين أمّاً ليوم واحد تديرين فيه شئون المنزل وتكونين مسئولة عن أخواتك بدلاً عني, وإذا ما نجحت في السيطرة على الأمور دون صراخ أو غضب, أعدك بأن أتخلى عن غضبي في المستقبل, وإذا فشلت ستعاونيني على شئون المنزل من الآن فصاعداً حتى لا أتحمّل كل العبء وحدي وأسيطر أكثر على أعصابي بمساعتدك... ما رأيك?

ابتسمت سامية بمكر وقالت: أقبل التحدي... سيكون أمراً سهلاً.

ابتسمت الأم ولم ترد, إذ لابد أن الرد سيأتي بعد انقضاء يوم غد حيث ستتولى سامية مهام المنزل, سامية فتاة في الخامسة عشرة من عمرها, لها أربع أخوات أصغر منها, رؤى في الثالثة عشرة من العمر, سهاد في العاشرة, نهاد في الثامنة, والصغيرة كوثر في الخامسة من العمر, كانت سامية فتاة ذكية جداً, ولكنها لم تكن تعاون أمها في شئون المنزل كثيراً, ومع هذا كانت تستنكر على الأم عصبيتها في التعامل مع الأمور, لاشك أن هذا التحدي الغريب الذي يدور بين الأم وابنتها الكبرى سيسفر عن الكثير, دعونا نرى ما حدث لسامية.

ما إن طلعت الشمس في الساعة السادسة صباحاً, حتى فوجئت الأخوات الأربع بشقيقتهن الكبرى توقظهن على خلاف العادة (هيا استيقظن... حان وقت الذهاب إلى المدرسة).

ردّت رؤى وهي تتثاءب: أين أمي?

نهضت سهاد بتثاقل وقالت: هل هي مريضة?

قالت سامية والحماس في عينيها: لا.. إنها في إجازة, سأكون أمكُنّ لهذا اليوم.

نظرت كل من سهاد ورؤى إلى بعضهما ثم استغرقن في الضحك, غضبت سامية من هذا التصرف إذ يجب أن تعامل الأم باحترام, ولكنها عندما همّت لزجرهن تذكرت, أن عليها أن تكون طيبة, وهادئة!

ما إن تأكدت من استيقاظهن حتى أسرعت لإعداد الفطور لهن, وأثناء الفطور كادت تفقد صوابها مما لاقته.. فرؤى تتذمّر (الخبز يابس), ونهاد تصيح (أين بيضتي المسلوقة?) وسهاد تصرخ (أنت بطيئة يا ماما سامية! لو كانت ماما الحقيقية هنا لكنا انتهينا من الفطور) والصغرى كوثر تردد (لا أحب البيض... لماذا صنعت لي بيضا!).

كادت سامية تنفجر غضباً لولا أنها تذكرت التحدي الذي بينها وبين أمها, لاشك أن الأمر أصعب مما توقعت, ولكن عليها أن تحافظ على رباطة جأشها.

(لقد هدأن أخيرا) سُرت سامية بشدة وهي ترى أخواتها يأكلن بهدوء, وقد خفّت حدة تذمّرهن, ثم سألتهن وهي تحاول أن تكون لطيفة وطيبة: ماذا تردن على الغداء?

قالت رؤى: خروف مشوي!

نهاد: أريد مكرونة.

سعاد: وشوربة عدس.

كوثر: وطبق حلويات كبير!

يا إلهي! كيف يمكن لسامية أن تعد كل هذه الأمور?! لا فائدة.. لقد قبلت التحدي!

ساد السكون في المنزل عندما ذهبت كل من رؤى وسهاد ونهاد إلى المدرسة, في حين بقيت الصغرى في المنزل إذ لايزال أمامها عام حتى تتمكن من دخول المستوى الأول, تركت سامية كوثر الصغيرة في إحدى الغرف لتشاهد بعض أفلام الكرتون وذهبت إلى المطبخ لتعد الغداء.

استيقظت الأم من نومها متأخرة, ثم ذهبت إلى المطبخ ودُهشت عندما رأت الفوضى تعمّ المكان وسامية تتطلع في كتب الطبخ والحيرة تكتسي وجهها.

سألت الأم: ألن تذهبي إلى المدرسة اليوم?

ردّت سامية: الأمهات لا يذهبن إلى المدرسة.

وقالت في نفسها: إن ثلاث ساعات من دراسة الرياضيات لأسهل ألف مرة من إعداد وجبة غداء, ابتسمت الأم وهي تتأمل الفوضى: يبدو أنك في حاجة إلى مساعدة.

- لا أحتاج إلى شيء... شكراً.

- متأكدة!

- متأكدة طبعاً.

- لا بأس... ولكن تأكدي من تنظيف المكان جيداً عند انتهائك.. هذا إن انتهيت!

شعرت سامية بالغضب من تهكّم أمها, ولكن... يجب أن تكون هادئة وطيبة!

مرّت الساعات وسامية مازالت في المطبخ تعد طعام الغداء, في حين خرجت أمها إلى السوق لشراء بعض الحاجات, شعرت سامية بالفرحة تغمرها وهي تتأمل الأطباق التي أعدتها بجهد جهيد, قالت تحدّث نفسها وهي تبتسم (حقاً من جد وجد) ثم نظرت إلى ساعة يدها فوجدتها تشير إلى الثانية عشرة, صاحت بهلع (يا إلهي! لم يبق على مجيء الصغار غير ساعة, يجب أن أرتّب الغرف!).

ثم أسرعت لترتب الأسرّة المبعثرة ولكنس السجاد وترتيب الملابس وتنظيف الشبابيك, وخلال نصف ساعة, كان كل شيء لامعاً ونظيفاً, تنفّست سامية الصعداء وابتسمت وهي تتأمل الغرف النظيفة, ثم ذهبت لتطمئن على الصغيرة كوثر. صعقت سامية وشعرت بالمرارة والغضب وهي ترى كوثر قد لطّخت السجاد بالألوان ورسمت على الحوائط رسوماً غريبة... ماذا فعلت! أرادت سامية أن تنهر أختها وأن تضربها وتعاقبها على تصرّفها (اللامسئول) ولكنها في آخر لحظة تذكرت ابتسامة التحدث على وجه أمها.. لا لا يا سامية! يجب أن تكوني طيبة وهادئة!

أخذت سامية نفساً عميقاً ثم حملت كوثر إلى الحمام وحممتها جيداً لتنزيل آثار الألوان والأقلام من يديها وقدميها, ثم ألبستها ملابس نظيفة وأجلستها في الصالة وقالت (حبيبتي... كوني هادئة ومطيعة).

ابتسمت كوثر ببلاهة, لاشك وأنها تتمنى لو عوقبت بهذا الشكل في كل مرة تتصرف تصرفاً خاطئا! هذا يعني أنها مهما فعلت فلن توبّخ...إذن لتفعل ما تريد!

أما عن سامية فقد ذهبت لتنظيف السجاد والحوائط لإزالة آثار الألوان والبقع وهي تتذمّر في نفسها وتردد في الوقت نفسه (كوني هادئة).

دخلت رؤى الغرفة دون أن تخلع حذاءها الواسع فعلق الغبار بالسجاد المبلل, قالت ضاحكة: ماما سامية لقد عدنا من المدرسة, قالت سامية وهي تغتصب ابتسامة: أهلا بكن.
ولكنها عندما رأت الغبار العالق بالسجاد الذي انتهت من تنظيفه أفلتت صرخة ذعر, ولكنها استعادت رباطة جأشها وقالت: استبدلي ملابسك وساعدي أخواتك على ذلك ريثما أضع الغداء على المائدة.

(يا لك من أم!) ضحكت رؤى وهي تنصرف.

أعادت سامية غسل السجاد ثم أسرعت لإعداد الغداء ووضعه على المائدة, قالت لنفسها وهي تتأمله بسرور (ستصيبهن الدهشة إذا رأين طبخي... سلمت يداي!).
وقطع حبل أفكارها صوت رنين الهاتف, رفعت سامية السماعة فإذا المتكلم أمها (أهلا سامية.. سأتناول غدائي في مطعم مع صديقتي.. اعتني بالأطفال جيداً).

ردّت سامية (أمر مؤسف... أردتك أن تري ما طبخت).
قالت الأم بمكر: نعم. ولكنه يوم إجازتي.

لاشك وأن الأم تستمتع بوقتها.

صاحت نهاد (هيا ماما سامية أنا جائعة!).

التفتت سامية إلى الطاولة فإذا الصغيرات ملتفات حول المائدة ينتظرن مَن يقوم بوضع الطعام في أطباقهن, أسرعت سامية لوضع الطعام لهن وهي تتساءل في قرارة نفسها (لماذا لم يعلق أحد على الطعام الذي تعبت في إعداده).

أصدرت سهاد صوتاً مقززاً وهي تلفظ الطعام من فمها, ثم أسرعت إلى الحمام لتغسل فمها ثم عادت وهي تقول متذمّرة (لقد وضعت السكر بدلاً من الملح!).

ضحكت رؤى وقالت: يا لك من أم طبّاخة!

يا إلهي.. ماذا ستفعل سامية في هذا الموقف الحرج, الحمد لله أن أمها ليست هنا لترى مقدار حرجها.

صاحت نهاد: ماهذا الطعام.. أنا جائعة... أريد شيئاً يؤكل! لماذا لم تعدي لنا المعكرونة التي طلبناها!

سامية: إعداد اللحم المشوي أخذ كل وقتي.

بكت كوثر وأخذت تردد: أنا جائعة! أنا جائعة!

كانت سامية في موقف لا تُحسد عليه, سرعان ما ذهبت إلى المطبخ وأحضرت لهن بعض الشطائر الجاهزة وبعض الأطعمة المعلبة, وكانت التعليقات التي حصلت عليها لاذعة حقاً, ولكن عليها أن تكون هادئة وطيبة!

بعد وجبة غداء غير هنيّة, ذهبت كل من رؤى وسهاد للنوم, في حين ذهبت كوثر ونهاد لمشاهدة مسلسل الأطفال المفضل لديهما, استغلت سامية هذه الساعات لتقوم بتنظيف الأطباق ومن ثم لتقوم بغسل الملابس وكيّها.

بعد مضي ساعتين من العمل المضني الشاق, قررت سامية أن تستريح قليلاً, ولكن لم يكن لها ذلك لأن نهاد طلبت منها أن تدرسها لامتحان الرياضيات, كانت عملية التدريس مثيرة للأعصاب إذ لم يكن من السهل شرح المادة لنهاد التي لم تكن سريعة الفهم, كما لم تكن شديدة الحرص والتركيز الأمر الذي أثار غضب سامية, ولكن عليها أن تكون طيبة وهادئة!

خلال نصف ساعة وجدت سامية المنزل في حالة فوضى تامة, كوثر تعبث بمكياج أمها وأدوات تجميلها, رؤى أرادت أن ترتدي قميصها الأزرق فإذا بها ترمي بكل الملابس الموضوعة في الخزانة على الأرض لكي تجده... نهاد مازالت لا تفهم حرفاً مما تقوله سامية, سهاد تتشاجر مع رؤى وتملأ المكان صراخاً وبكاء, كوثر لطّخت الأثاث بالمكياج, نهاد ترفض الدراسة وتذهب لمشاهدة التلفزيون, رؤى تعتدي على نهاد بالضرب لأنها ارتدت ثوبها المفضل, الخزانات مبعثرة والملابس منتشرة في كل مكان, وبقع كبيرة منتشرة على الأثاث, وأمام كل هذا لم تملك سامية إلا أن تصرخ (كفى!!) ثم تذهب إلى أخواتها وتضربهن ضرباً مبرحاً وتعاقبهن بشدة.

وفي الوقت نفسه دخلت الأم المنزل ورأت كل شيء وخسرت سامية التحدي!

أسرعت البنات إلى أمهن يبكين ويشكين سامية التي ضربتهن, ووقفت سامية مكانها حائرة غضبى والقهر يعتصر قلبها, فقد فشلت في آخر لحظة, طأطأت رأسها بيأس وكأنها تقول (لقد فشلت يا أمي).

ابتسمت الأم على خلاف ما توقعته سامية من التوبيخ والمعاتبة وربما التهّكم, ثم طلبت من بناتها المحتجات أن يذهبن إلى النوم وبقيت سامية مع أمها وحدها.

فتحت سامية فمها تريد الكلام, ولكن أمها وضعت أصبعها على فمها برقّة وقالت: لقد فعلت ما وسعك وأبليت بلاء حسناً.

- ولكني فشلت..

- ومع هذا أن فخورة بك... ولاشك وأنك ستصبحين أما رائعة عندما تكبرين.

- أمي... لقد فهمت الدرس, وأدركت مدى حجم المسئولية التي تقع على الأمهات, وفهمت أيضاً لماذا يغضب الكبار.

ابتسمت الأم بلطف, فاسترسلت سامية: ولأنني أصبحت أدرك مدى ما تتكبّدونه بسببنا, أعدك بأن أساعدك بشئون المنزل من الآن وصاعداً.

طبعت الأم قبلة حنونة على جبهة سامية, وقالت: هيا صغيرتي الحبيبة اذهبي إلى النوم.

ذهبت سامية إلى فراشها بعد يوم متعب طويل, اندست في السرير بسرور تبتسم, فقد فهمت درساً جديداً وعرفت لماذا يغضب الكبار.

 

 


 

بثينة العيسى