واحة الفن الجميل

واحة الفن الجميل

الواقعية والتجريد

الفنان منير كنعان, الذي نقدمه اليوم لأصدقاء (العربي الصغير) احتفلت مصر به أخيراً, بعد مرور أكثر من عامين على وفاته عن عمر يتجاوز ثمانين عاماً, حيث ولد في فبراير 1919 ورحل في ديسمبر 1999, قضى منها نصف قرن متفرّغاً للفن.

لذلك جاء المعرض التذكاري الذي أقيم بالقاهرة في شهر يونيو الماضي تكريماً له تحت عنوان (مصر في عيون كنعان) وضم أكثر من 400 لوحة جمعت كل مراحله الفنية ودراساته ومجالات إبداعه, بين لوحات بالألوان الزيتية والمائية وبألوان الباستل والأكريليك, وتقنيات القص واللصق (الكولاج) والمجسمات بخامات مختلفة, وكان لابد أن تتنوع الأساليب الفنية لهذه الأعمال, من دراسة واقعية لمظاهر الحياة اليومية في الأحياء الشعبية وقاعات المحاكم ومشاهد الريف... إلخ, إلى رسم الوجوه والأشخاص بالأسلوب التقليدي أو الانطباعي, إلى الرسم التعبيري بالأسلوب الخيالي أو السريالي أو الرمزي, إلى الرسم التجريدي بمساحات الألوان المتقابلة والخطوط المتحاورة مديراً ظهره تماماً لملامح الواقع والطبيعة, وأخيراً ينتهي إلى أسلوب (الكولاج) مستخدماً قصاصات الورق من المجلات الملوّنة وبقايا علب التغليف والعلامات التجارية للبضائع المستوردة في تأليف تكوينات فنية تجريدية بحتة. وفي كل هذه المراحل نجده أستاذاً متمكناً من الأسس والقواعد الأكاديمية, وكان ذلك يؤهله لتحقيق مكانة عالمية وثروة كبيرة لو تخصص في أي منها, خاصة أنها - باستثناء أعماله التجريدية - فنون تلاقي إقبالاً كبيراً في كل وقت على المستوى الاجتماعي والمستوى التجاري.


تجارب وخامات

لكن كنعان - وهو في قمة شهرته من خلال الأساليب الواقعية أوائل الستينيات - فضل أن يسخّر كل إبداعه وطاقته للتجارب الطليعية بالخامات المختلفة, للوصول من خلالها إلى رؤى مبتكرة, حتى لو أدى ذلك إلى إحداث صدمة جمالية للمشاهدين, وهو ما حدث فعلاً حين أقام معرضاً عام 1961 ضم مجموعة من الأعمال الفنية لا تصنّف كلوحات أو كتماثيل, فهي تتألف من بقايا أدوات مستعملة مثل النافذة والغربال, و (القفة الخوص), ومن خامات متناقضة مثل الليف والخيش والأسلاك والمسامير, حيث أعاد صياغتها - بحالتها البدائية - ليشكّل بها علاقات جمالية مثيرة. ومن المعروف أن فناني المدرسة (الدادية) في أوربا بعد الحرب العالمية الأولى (بدءاً من 1914) هم أول من فتح هذا الطريق, إلا أن أعمال الدادية كانت بمنزلة بدعة قصيرة العمر قصد بها التهكم والاحتجاج على مشعلي الحرب وتجّار السلاح من الطبقة الرأسمالية وعلى مُدّعي الثقافة الأرستقراطية, وسرعان ما تخطاها الزمن, إلا أن كنعان كان يملك الشجاعة والجرأة لإعادة الحياة إلى أسلوب (الدادية), لكن من منظور جديد بعيداً عن السياسة والاحتجاج والتهكم, ولم يفهمه الجمهور وقتذاك, وقد كان يتطلع في الحقيقة إلى إعادة الاحترام إلى رموز البيئة الشعبية بخاماتها الفقيرة, ليس بمظهرها المتواضع, بل بدلالة موقعها في التكوين الفني بعد أن يتحرر المشاهد من نظرة التشخيص الضيقة.

آخر صيحة

والغريب أنه بعد ثلاثين عاماً من هذه التجربة, وبعد ظهور عشرات الاتجاهات الجديدة في الفن الحديث, أصبح ذلك الاتجاه (الكنعاني) هو آخر صيحة في الفن العالمي, ضمن ما أطلق عليه اسم (فنون ما بعد الحداثة), أو (الفن المفاهيمي) بمعنى أن هدف الفنان أن يقدم مفهوماً ذهنياً معيناً لفكرة ما, من خلال العلاقة بين هذه المكونات بخاماتها الغريبة.

واتجه كنعان بعد ذلك إلى الفن التجريدي البحت بروافده المختلفة, من رسم ملوّن إلى (كولاج) إلى مزيج من النوعين, ويشرح الفنان تجربته قائلا:

(التجريد لا ينتسب إلى الجراد كما يظن البعض هازلاً أو جاداً! التجريد لا يعني السلب, لكن يعني التخلص من الثرثرة حول الفكرة, يعني تصوير الحقيقة في لبّها مع إسقاط الظاهر المادي المخادع والمعوق لرؤية الحقيقة واستشعارها, وهذا هو جوهر العقل الإسلامي ومنطق تعامله مع الكون وأشيائه المرئية واللامرئية. إن الآية القرآنية الكريمة (ليس كمثله شيء) تعلم المسلم كيف يؤمن بالله كحقيقة مجردة, وهذا ما حاولتُ البحث عنه طوال رحلتي الفنية...).

فن الكولاج

لذلك نجد في لوحات كنعان (بالكولاج) ترديداً لأشكال هندسية مثل المربع والمثلث, وتقابلا وتقاطعا بين خطوط رأسية وأفقية, وتداخلا بين مساحات لونية, بما يخلق انسجاماً وتواصلاً ودافعاً للتأمل, لكنها كذلك لا تخلو من معان رمزية, مثلما فعل في لوحاته التي رسمها بعد هزيمة يونيو حيث استخدم علامة x تعبيراً عن الرفض للهزيمة ولأسبابها, لكن مرحلة (الكولاج) تعد أبرز التجارب وأطولها عمراً في رحلته الفنية, ضمن اتجاهه التجريدي الذي يحمل بصمة خاصة متفرّدة لفنان أصبح معروفاً على نطاق عالمي.

 

 


 

عزالدين نجيب