الملك توت يخرج من الظلام

الملك توت يخرج من الظلام

كان هذا الاكتشاف واحدا من أكثر اللحظات إثارة في القرن العشرين, ورغم مرور 80 عاما عليه إلا أن الصحف والمجلات مازالت تستعيد ذكرى هذه اللحظات, بل إن هناك أكثر من فيلم قد تم استيحاؤه من هذا الحدث آخرها هو فيلم المومياء الذي تعرضه دور السينما الآن, إنها قصة اكتشاف مقبرة الملك توت عنخ آمون.

لم يكن هذا الملك الذي حكم مصر القديمة شهيرا, ولم تكن له أعمال عظيمة, لم يكن مثل الفرعون مينا الذي وحد بين شمال مصر وجنوبها وخلق منها دولة, ولم يكن مثل خوفو الذي بنى الهرم الأكبر, ولا مثل بسماتيك الذي حفر أول قناة تصل بين البحر الأحمر ونهر النيل حتى يسهل حركة السفن والتجارة, ولم يكن بطلا مثل رمسيس الثاني الذي هزم أعداء مصر وبنى المعابد الهائلة, كلا كان ملكا صغيرا في السن, مات بعد أن حكم مصر لفترة قصيرة كانت الأمور فيها مضطربة, لذلك لم يتح له الوقت حتى يقوم بأي عمل عظيم, ما السر إذن في هذه الشهرة التي يتمتع بها هذا الملك الصغير في أيامنا? إن الكتب المؤلفة عنه لا تتوقف وآخرها كتاب صدر منذ أشهر قليلة يحكي عن حياة هذا الفرعون وعن الليلة التي مات فيها?

ربما تجيب قصة الاكتشاف عن هذا السؤال.

القبر المجهول

في يوم 25 نوفمبر عام 1922 كان هناك شخصان إنجليزيان يحيط بهما عدد من العمال المصريين الذين يحملون المعاول ومشاعل النيران يحاولون جميعا شق طريقهم خلال قبر مظلم لم يفتحه أحد منذ أكثر من مليون ليلة, كان الإنجليزي الأول هو هوارد كارتر الذي قضى أكثر من خمس سنوات وهو ينقب عن هذا القبر المجهول والثاني هو اللورد كارنفون الذي آمن بكارتر وبفكرته عن قبر الملك الصغير وظل يمول بعثة التنقيب التي تقوم بالحفر في وادي الملوك على مدى كل هذه السنوات.

يوجد وادي الملوك على الضفة الغربية للنيل أمام مدينة الأقصر, وقد كانت هذه المدينة هي العاصمة القديمة لمصر الفرعونية, لذلك اختار الفراعنة هذا المكان حتى يدفنوا فيه ملوكهم, وهذا الوادي هو أغنى منطقة أثرية في العالم, ففيه ثلث الآثار التي عرفها العالم كله, ومازالت الاكتشافات تتوالى فيه حتى الآن. ولكن في هذا الوقت من عام 1920 لم يكن هناك اهتمام كبير باكتشاف آثار الحضارة الفرعونية, بالإضافة إلى أنها كانت عملية صعبة ومكلفة وغير مأمونة النتائج, ولكن كارتر غير كل هذه الأشياء. فهذا الشاب الإنجليزي الذي لم يتخرج من أي كلية قد احترف الرسم منذ أن كان في السابعة عشرة من عمره, وعمل موظفا في المتحف البريطاني وتخصص في رسم الآثار المصرية القديمة, فقام المتحف بإرساله إلى مصر لرسم لوحات عن المقابر الموجودة فيها, وهناك بهرته روعة الحضارة المصرية القديمة وظل يواصل العمل ليلا ونهارا. كان كارتر قد حفظ خريطة وادي الملوك عن ظهر قلب, واكتشف من خلال المسافات التي تفصل كل قبر عن الآخر أن هناك قبرا لم يكتشف بعد, ولكن لم يصدقه أحد ولم يجد من يدفع الأموال من أجل الحفر وراء فكرة لم تثبت صحتها.

إلا إن الصدف تغير مصير الناس أحياناً, وهذا ما حدث مع كارتر عندما تقابل مع اللورد كارنفون الذي كان هو أيضا عاشقا للآثار المصرية, ولكنه كان يملك شيئين لا يملكهما كارتر, المال اللازم للإنفاق على العمال الذين يقومون بالحفر, وتصريحا بالبحث عن الآثار من السلطات المصرية, والتقى الرجلان وكان أهم شيء في هذا اللقاء أن اللورد قد اقتنع بنظرية كارتر حول القبر المفقود وبدأ العمل بالحفر في عام 1914.

بداية الاكتشاف

ولكن بعد سنوات من الحفر والانتقال من مكان لآخر دب اليأس في قلب اللورد وقرر أن يعود إلى إنجلترا. أما كارتر فلم ييأس وقال لنفسه (سوف تكون هذه هي المرة الأخيرة), وفي 10 نوفمبر عام 1922 اكتشف أحد العمال الذين يحفرون مع كارتر قطعة مستوية من الحجر, كانت هذه هي بداية درج يقود إلى أسفل, هبطوا بحذر حوالي 12 درجة حتى وجدوا أنفسهم أمام مدخل أحد القبور المجهولة, توقع كارتر أنه قد اصبح قريبا من اكتشاف جديد, الحلم الذي انتظره طوال هذه الأعوام الماضية, وعلى الفور أسرع بإرسال برقية إلى اللورد كارنفون يطلب منه القدوم إلى مصر فورا وقال له: أخيرا توصلنا إلى اكتشاف مدهش في وادي الملوك.

بعد أيام حضر اللورد ومعه ابنته وبدأت اللحظات التاريخية, بدأ فتح القبر المهجور, فكل القبور المصرية القديمة كانت قد فتحت وسرق اللصوص محتوياتها, إلا هذا القبر الذي لم يكن أحد قد توصل إلى مكانه من قبل. قادهم مدخل القبر إلى ممر آخر طويل معتم مكتوم الهواء, أخذوا ينظفونه حتى اكتشفوا بابا لحجرة أخرى, ويكتب كارتر في مذكراته واصفا هذه اللحظة المثيرة (بيد مرتعشة رفعت الحجر الأول من هذا الباب, ودخلنا من خلال الفتحة الضيقة وليس معنا إلا أضواء المشاعل, وفي البداية لم أر شيئا, ولكن بعد أن تعودت عيني على الظلام اكتشفت أن أمامي العديد من تماثيل الحيوانات, تسبح في ضباب من الذهب, ومن الخلف جاء صوت اللورد وهو يقول: هل رأيت شيئا? قلت له: أجل, لم أر ما هو أروع من هذا. هناك آثار تكفي لملء دور كامل من المتحف البريطاني).

قناع الملك

لم تكن هذه هي الغرفة الوحيدة, فقد كانت المقبرة مكونة من أربع غرف وكل واحدة منها تحمل مفاجأة لفريق الاستكشاف, تماثيل ونقوش على الجدران وأسلحة قديمة وأوان من الفخار الملون. وفي الغرفة الأخيرة جسد الملك الصغير توت عنخ آمون في تابوت ضخم وسط ثلاثة أكفان اثنان منها من الذهب, وعلى رأسه يوجد قناع محفور من الذهب ومرسوم عليه بدقة كل ملامح الصغير, وقد أصبح هذا القناع هو أشهر صورة في العالم بعد ذلك. لقد دون كارتر قائمة بكل محتويات الغرف الأربعة واكتشف أنها تحتوي على 3500 قطعة من بينها عربة محطمة وضعوها قديما بجانب الملك الراحل اعتقادا منهم أنه سوف يركبها إلى العالم الآخر.

في 16 أبريل عام 1923 أعلن الاكتشاف. ولم تمض أيام على هذا الاكتشاف حتى أصيب العالم بجنون الملك توت عنخ آمون. تدفق على مدينة الأقصر مئات الصحفيين والمصورين ورجال السينما, ونشر الخبر على الصفحات الأولى في كل صحف أوربا وأمريكا, وتحولت كل الصور التي خرجت من الأقصر إلى موضة رائجة, قصات الشعر وتصميم الملابس والهدايا التذكارية وحتى العمارة, وبدأت كثير من الأبنية الحديثة تأخذ طراز العمارة الفرعوني . وأصبح الملك الصغير الذي لم يحتل إلا سطورا قليلة من التاريخ هو أشهر الملوك على الإطلاق, فإذا ذهبت إلى المتحف المصري الموجود في ميدان التحرير بالقاهرة فسوف تجد قاعة هائلة عليها حراسة مشددة تضم آثار هذا الملك يتصدرها قناعه الذهبي الشهير, وأحيانا تخرج هذه المجموعة الذهبية من مستقرها لعدة أيام لتطوف العالم فينتظرها الجميع في كل العواصم الكبرى بشغف بالغ وتمتد الطوابير الطويلة في انتظار الدخول إليها.

لعنة الفراعنة

ولكن ماذا عن لعنة الفراعنة, تقول الأخبار إن من بين الـ 26 شخصا الذين شهدوا افتتاح هذه المقبرة فإن 6 أشخاص ماتوا خلال العام الأول من الاكتشاف, ومعظم هذه الميتات تمت بطريقة غامضة ولا تفسير لها, ثم بعد ذلك توالى موت الباقين الذين شاهدوا هذا الحدث. صحيح أن منهم من مات بشكل طبيعي أو ضحية حوادث مفاجئة ولكن هذا جعل العديدين يقولون إن هناك جراثيم خفية كانت موجودة داخل القبر هي التي أدت إلى موتهم. وتقول الحكايات إن الفراعنة يغضبون دوما من الذين يتجرءون على فتح قبورهم ولذلك يعاقبونهم بالموت. المهم أن القرن العشرين شهد واحدة من أشد اللحظات إثارة في التاريخ عندما خرج الملك توت من الظلام الذي دام أكثر من مليون ليلة.

 


 

محمد سيف





كارتر وبجانبه كبير العمال عبدالرسول وهما يستعدان لدخول القبر





صورة لفتحة القبر والجنود يقومون بحراسته والعمال ينقلون بعض محتويات القبر