العصفــور الجميــل الطائر في السمــاء
العصفــور الجميــل الطائر في السمــاء
في أرض جليدية باردة, كان يعيش ساحر وابنته. وكانت للساحر قدرات خارقة, إذ رغم الجليد المحيط به من كل صوب, فقد كان في منزله حدائق غنّاء تشرف على سهل يشتمل على حقول خضراء وبحيرات متلألئة. وتلتقي مياه البحيرات بشلالات الجبال الجليدية الوعرة. كانت ابنة الساحر غاية في الجمال, ولم تكن تعرف لها اسماً, فقد كان الساحر يناديها بـ(ابنتي), كما لم تكن تعرف أحداً غير أبيها. لكنها كانت أحياناً ترى في الأحلام أن لها اسما, فإذا استيقظت لم تتمكن من تذكره. ولم يكن الساحر ليترك ابنته تغادر السهل, وعندما سألته يوماً السماح لها برؤية ما وراء الجبال الثلجية, قام بتغيير السهل المحيط بالمنزل إلى جزيرة مدارية بشواطئ من الرمل الأبيض وحدائق من النخيل المثمر. وجعل البحيرة الصغيرة بحراً واسعاً ذا مياه زرقاء صافية تسبح فيها ابنته وتتسلى بصيد الأسماك الملوّنة من الشعب المرجانية. وعندما ضاقت بذلك ذرعاً, قلب الساحر المنزل الفخم إلى قصر منيف في أعلى الجرف, تحيط به غابات الصنوبر حيث تعيش الظباء حرّة وتحلق الصقور طليقة في السماء. واسترعى ذلك انتباه الفتاة, فتاقت إلى الحرية. عندئذ حوّل الساحر السهل أدغالاً حيث ترى القردة في مجموعات دائبة الحركة دائمة المرح. جلبت ألعابهم الجماعية انتباهها, فتاقت إلى الرفقة, وذهبت للبحث عن أبيها في البرج الشاهق حيث كان منكبّاً على كتبه. لكن الساحر لم يكن لديه متسع من الوقت للحديث معها, فقال لها: (لا تزعجيني يا ابنتي), وأطرق هنيهة ثم أردف: (إذا لم أتمكن من حل خيوط هذا اللغز فأنا ضائع لا محالة..). لقد استطاع الساحر خلال حياته السابقة اكتساب كل ما يمكن أن تمنحه الحياة, عن طريق السحر, لكنه انتبه الآن إلى كونه بدأ بالهرم. وفطن إلى أن الشيخوخة قد تسرق منه كل قوته إذا لم يتمكن من اكتشاف السر الذي تحدى جميع السحرة من قبله, ألا وهو سر الشباب الأبدي. أخذت الفتاة تنظر إلى ركام الكتب المحيط بأبيها, وعندما تناولت أحدها انتهرها والدها, فرجته قائلة: (أحضر لي كتباً خاصة بي من فضلك). كان ذهن الساحر شارداً في قضية الحياة والموت, فرفع يده وحرّكها وهو ساه قائلاً: (ستجدين الكثير من الكتب في غرفتك). ركضت الفتاة إلى غرفتها فوجدت الأرضية امتلأت بالكتب, فاغتبطت للأمر وقضت فترة طويلة لا تزعج أباها, اكتشفت أثناءها عوالم جديدة من خلال قصص المغامرات والجن وحكايات البطولة والقصص الرومانسية. وعلمت من خلال قراءاتها بوجود أراض أخرى آهلة بالناس في ما وراء الجبال المحيطة بالقصر, وأن هناك وجودا للأمهات والأخوة والأخوات تماماً كما أن هناك وجودا للآباء, وأن كل الناس في الكتب لديهم أسماء, فاسترجعت الحلم الذي طالما رأته في النوم. لذلك اتجهت إلى أبيها مرة أخرى, وسألته قائلة: (أبي. ما هو اسمي?). نظر إليها الساحر بحدّة: (أنا أناديك ابنتي. وهذا كاف!), فانتقلت إلى سؤال آخر: (أين أمي?) وامتقع وجه الساحر وهو يسألها: (وماذا تعرفين عن الأمهات?) قالت: (لقد قرأت الكتب!), وهنا فقط انتبه الساحر إلى غلطته, فبإعطائها الكتب كان قد أعطاها المعرفة. ووجم للحظة ثم نظر إليها في خبث وقال: (ابنتي, ليس لديك أم. في الماضي عندما كنت وحيداً أتوق إلى الرفقة, صنعتك بواسطة تعاويذي من وردة نمت عند أحد جدران القصر). فأجابت ابنته: (حوّلني إلى وردة إذن, وسأعرف إذا كان حقاً ما تقول: قال الساحر: (حسناً, ولكن ليوم واحد فقط). وحرّك الهواء بأصابعه الطويلة النحيفة فتحوّلت ابنته إلى وردة. عندما ارتفعت الشمس في وجه الظلام, شعرت ابنة الساحر بندى الصباح يسقط على وريقاتها, وبشذى عطرها يعبق تحت الأشعة الدافئة, والنسيم العليل ينساب مع غروب الشمس, غير أن إحساساً غريباً كان لايزال عميقاً بداخلها ينبؤها بأنها ليست وردة. ومن الغد ذهبت إلى الساحر وقالت: (أبي, أنت تراوغني بلاشك, أخبرني أين توجد أمي). لما رأى الساحر أن الحيلة لم تنطل عليها, قال: (أنت أذكى مني يا ابنتي, سأخبرك بالحقيقة, لقد كنت سمكة صغيرة في تلك البحيرة المتلألئة, أعجبتني ألوانك الجميلة, فسحرتك فتاة صغيرة وجعلتك ابنتي). قالت الفتاة: (أعدني إلى هيئتي الأولى إذن, حتى أتأكد من ذلك). أجاب الساحر وهو يرسم في الهواء شكل سمكة: (ولكن ليوم واحد فقط!). أحسّت ابنة الساحر بالماء البارد ينساب كالحرير على جلدها, فانزلقت داخله بلطف. وأخذت تتأمل قاع البحر, ثم خرجت إلى السطح وقفزت عائدة إلى الداخل مرة أخرى مخترقة دائرة من التمويجات المائية, غير أن فكرة واحدة كانت تهيمن عليها أثناء لعبها وهو كونها ليست سمكة. وفي صبيحة اليوم التالي, ذهبت إلى أبيها مرة أخرى, وقالت له: (أشعر أنك تخدعني.. يا أبت! قل لي, من فضلك, أين توجد أمي?). فنظر إليها من أعلى كتفه مقطباً وأجاب: (أصبحت مزعجة! أتمنى لو أنني تركتك في الغابة على هيئة ظبي ولم أجعلك ابنتي). فتوسلت إليه قائلة: (فإذن أعدني ظبية كما كنت حتى أتمكن من الركض إلى جانب أمي). بإشارة من يده, أحست بالأوراق الرطبة تحت حوافرها الصغيرة واشتمت رائحة الدفء في جوار أمها. كانت الظبية الأم لطيفة وشديدة العناية بها, فأحست بالحنان الذي تكنّه الظبية لها, وفهمت ماذا يعني أن يكون لها أمّ, لكن بعض الذكريات الغائمة في أعماق ذاكرتها كانت لاتزال تنبئها بأنها ليست ظبية. عندما ذهبت إلى والدها في اليوم الرابع, وجدته يكاد ينفجر غضباً. فقررت أن تحتال عليه حتى تكتشف الحقيقة. فقالت: (أبي, صار من المؤكد لدي أنني لم أكن أبداً وردة ولا سمكة ولا ظبية في الغابة. لكنني اكتشفت الحقيقة! إنني طير مسحور وسأتأكد من ذلك لو حوّلتني إلى صقر, فكم كنت أتمنى أن أطير في سماء جزيرتنا الجميلة!). رد الساحر: (ستكونين طيراً إذا كان هذا ما تريدين). وعلت فمه ابتسامة مكتومة وأتم حديثه قائلاً: (ولكنك لن تكوني أبداً صقراً يا ابنتي, فأنت لست سوى عصفور جميل طائر في السماء!). وحلقت ابنة الساحر عالياً فوق حديقة القصر. ثم اجتازت الجزيرة المترامية الأطراف والبحر الواسع, كانت تعلم أن عليها اجتياز قمم الجبال البيضاء العالية حتى تجد والدتها. غير أنه كان يشق عليها إنجاز ذلك في يوم واحد. كانت قمم الجبال غائمة وسط السحب الكثيفة. وكان يخيفها الاقتراب منها. طارت ابنة الساحر اليوم بأسره, وكانت كلما ارتفعت قمم الجبال, اشتدت برودة الهواء, حتى أصبح من العسير عليها التنفس بيسر. ومع ضوء القمر اجتازت الجبال الشاهقة لكي تجد نفسها فوق مزيد من الأراضي الجليدية الشاسعة. وعندما بدأت قواها بالتراجع. تمكن منها اليأس, لأنها كانت تعلم بأن الطلسم سينكسر عند الصباح, وستختفي عند ذلك أجنحتها وتهوي على تلك الأرض الجليدية القاسية. لكن مع أول خيط من خيوط الشمس, رأت فجأة مرجاً أخضر يتلألأ من بعيد, فأحسّت بإشراقة أمل أدخلت الدفء إلى جسمها المتجمد, واستجمعت قواها لتطير حتى أول أجمة, عندها خذلها جناحها الصغير, فهوت على أغصان إحدى الأشجار, وسقطت على الأرض مغشياً عليها. وعند المساء, مرّ شاب بالغابة كان يحتطب, وذهل لمرأى فتاة على قدر كبير من الجمال, ملقاة في طريقه مغمى عليها, فحملها إلى منزل صغير عند أسفل الجبل. بقيت ابنة الساحر بين الحياة والموت لأسابيع عدة, لا تكاد تفيق من الغيبوبة حتى تعود إليها الحمى من جديد. وعندما فتحت عينيها أخيراً, وجدت امرأة جالسة إلى جانبها, كانت المرأة ترعاها بعينين حنونين كما كانت الظبية في الغاب, غير أن الفتاة رأت الدمع ينهمر على خديها, فسألتها: (ما الذي يبكيك?), فتنهدت المرأة وأجابت: (معذرة, ولكنك ذكّرتني بابنتي التي فقدتها منذ سنوات). رجتها الفتاة قائلة: (حدثيني عنها), فأمسكت المرأة بيدها وقالت: (عندما كنت شابّة, توفي زوجي وترك لي ابناً وابنة. كان من العسير علي العمل في الحقل بمفردي, لأن الأرض الجبلية تحتاج إلى سواعد قوية. وفي أحد الأيام التي كنت فيها مرهقة وحزينة, مرّ بنا رجل ثري على جواد جميل. وتوقف لكي يستريح فرحّبنا به. وكانت ابنتي الصغيرة تقفز على ركبتي وتقوم بحركات تضحكه, فعرض علي الذهب مقابل أن أتخلى له عنها. لكنني رفضت. ومضى الرجل الثري صوب الجبل. ومن الغد خرجت ابنتي لتلعب مع أخيها عند سفح الجبل, وعندما حلّ الظلام لم نعثر عليها). وصمتت المرأة للحظات ثم أردفت: (لو كنت تركتها للثري لكنت الآن على يقين من أنها على قيد الحياة في مكان ما وراء الجبل!), وسألتها الفتاة: (وما كان اسمها?) فأجابت الأم: (كنا ندعوها (تهي بهي يان, لأنها كانت كعصفور جميل يطير في السماء!), وعلى الفور, تذكرت الفتاة الاسم الذي كان يتناهى إليها في أحلامها. وتذكرت كيف ابتسم الساحر وهو يقول: (أنت لست سوى عصفور جميل طائر في السماء!). فأدركت أن ذلك كان اسمها. عندئذ, طوّقت (تهي بهي يان) عنق والدتها. وبكت من الفرح. وروت لها كيف عاشت طوال السنين الأخيرة كابنة للساحر. وكيف اجتازت الجبال البيضاء وهي على هيئة عصفور صغير, بحثاً عنها. ثم قالت: (والآن, هأنا بين أمي وأخي, فإذا سمحتما لي بالبقاء فلن أترككما أبداً). فأجابت الأم: (ولكننا لسنا أغنياء يا ابنتي! نحن نعمل بالحقل ونعيش حياة بسيطة جدا. أما أنت فقد شببت على الترف ولن تتحملي قسوة الحياة هنا!). فقالت تهي بهي يان: (أنت مخطئة يا أماه! لقد منحني الساحر كل شيء. ما عدا الحرية والحب. وأنا أنعم بهما معكما, إن الحرية أثمن من جميع الثروات والحب أجمل من جميع الجواهر. ألست ابنتك? أفلا يتحتم علي أن أعمل مثلك وأن أحيا بنفس طريقتك?! أرجوك, أخبريني بأنني أستطيع البقاء!). وعادت الصغيرة (تهي بهي يان) إلى العيش مع عائلتها في سفح الجبل الممتد في تلك الأرض الجليدية الباردة.
|