حكاية الولد القروي

حكاية الولد القروي

كان حسين, الصبي الصغير ذو الرأس الحليق, يجلس أمام دارهم, وكانت الغيمات يظللن السماء, الخضرة الصاحية والمزارع على مد البصر. وأصوات الجنادب والطيور وأغنيات العمل في الحقول تعبق في المكان, باختصار, كان الجو في ذلك الضحى الخريفي القروي جميلاً. لماذا? لأن المطر ظل يغسل الدنيا طوال البارحة التي صادفت ليلة الخميس الرابع والعشرين من شهر أغسطس, الملقب بشهر المطر, لماذا يا ترى لُقّب بشهر المطر? كان هذا هو السؤال الذي دائماً ما يسأله حسين لجدته كلما ذكرت في حكاياتها المسائية هذا اللقب. ولكنه اليوم لن يسأل طبعاً, فقد تأكد بنفسه من دواعي هذا اللقب مما حدث في البارحة والليالي الفائتة التي كان المطر فيها مدراراً. على أي حال: اليوم هو يوم الجمعة, صديق حسين الأقرب إليه من بقية أيام الأسبوع.. لماذا? لأنه اليوم الذي تذهب فيه أمه عادة إلى المدينة - التي يتخيلها كمنديل أزرق - وتعود منه محمّلة بالأشياء الجميلة والأشياء اللذيذة التي يحبها, مثل الحلوى والفواكه, والملابس الجديدة أحياناً.

كان حسين يجلس أمام الدار كما قلنا, وفي الحقيقة كان فرحاً وهو ينظر إلى العصافير وهي تطير وترك, وتطير وترك, والجرادات الخضراوات ذوات الأرجل الطويلة, يتقافزن هنا وهناك فوق العشب الأخضر الجميل هو الآخر, ثم ها هو (ولد المطر) فاقع الحمرة يتجوّل بقربه. (يا ترى أين هو ذاهب الآن?) تساءل حسين في نفسه, هو لا يعرف الإجابة, ولكنه يعرف من أين أتى ولد المطر, ألم تقل جدته إن الأمطار هي التي تلده? إذن فهو قد وُلد - بالتأكيد - في ليلة البارحة, ولكن أهو يرضع مثل الأطفال الصغار أم يأكل مثل الكتاكيت? الله أعلم.. أخذ حسين حفنة من الرمل ووضعها أمام ولد المطر ليرى كيف سيتصرف هذا الصديق الصغير! العجيب أنه لم يفعل شيئاً غير أن همد! وبعد فترة تساءل حسين: أهو نائم أم ماذا? قرر حسين ألا ينسى أن يسأل جدته حين تعود, وطبعآً كان سيعرف من أخيه عمر أو من أبناء الجيران الأكبر منه لو كانوا موجودين, ولكنهم ذهبوا ليرعوا أغنامهم في الخلاء البعيد, أما عائشة ومحمد وصادق, أنداده الذين ذهبوا مع أهلهم إلى المزارع فلا فائدة من سؤالهم, فليس من الممكن أن تكون لديهم إجابة, لأنهم ببساطة لا يعرفون مثله تماماً, ومن أين سيعرفون? إذن لابد أن ينتظر جدته التي ستعود من بئر الماء النظيفة التي ذهبت إليها لتجلب الماء, تاركة إياه ليحرس المنزل ذا (القُطّيات) الأربع, والأبواب المفتوحة.

ترك حسين ولد المطر وشأنه وبدأ يلعب, حفر حفرة في الأرض, وبنى من الرمل بيوتاً تشبه بيتهم, وجعل لها أسواراً وأبواباً, وكان يغني الأغاني الجميلة التي يغنيها أهل البلدة:

يا زرعي الأخضر.. يا زرعي

يا زرعي الجميل.. يا زرعي

يا ثوري الأسود.. يا ثوري

يا ثوري الجميل.. يا ثوري

يا ابني الذي سيكبر.. سيكبر

ويحمل عني أعباء النهار.. أعباء النهار

يا ابنتي التي ستكبر.. ستكبر

وتحمل عني أعباء النهار.. أعباء النهار

يا... يا... يا...

وفجأة سمع حسين كلب الجيران ينبح! لماذا يا ترى ينبح كلب الجيران? فقد مرّ قبل قليل من هنا, تشمم السور ومضى دون أن ينبح, ومرّ عم إبراهيم الصياد من أمامه دون أن ينبح أيضاً.

وكذلك لما مرّ الرعاة الذاهبون إلى السوق عبر الطريق الذي يمر من وراء القرية لم ينبح... لا... لا... إنه نبح, استدرك حسين وتذكّر أن سكو - وهذا اسم الكلب - سرعان ما تخلى عن النباح حينما نادته الجدة (سكو.. سكو... إش... إش) فسكو لا ينبح لمجرد النباح, ولا يتخلى عنه بلا سبب, وهو يحب الناس ويكره الذئاب كما تقول الجدة, إذن, لماذا ينبح الآن شديداً هكذا?? يجب أن أعرف... قال حسين لنفسه, ثم قام من ملعبه وجرى - حافياً كبقية أقرانه القرويين - ليرى ما يجري وراء سور المنزل. أبصر حسين الرجل الضيف ذا الملابس النظيفة يغالب الكلب بعصاه وقد بدا سكو أكثر شراسة مما مضى! لماذا يا ترى يعادي سكو الرجل الضيف ذا الملابس النظيفة هكذا! أجل حسين مسألة البحث عن إجابة وصاح مقلداً جدته (سكو... سكو.. إش... إش). فإذا بسكو يخفف من نباحه قليلاً قليلاً إلى أن تركه أخيراً وصار يهز ذيله لما اقترب منه حسين. غريبة! قال حسين متعجباً. وبعد ذلك ألقى الرجل التحية على حسين وشكره على إنقاذه من شراسة (الكلب الشرس) - هذا ما قاله الرجل, ولكن حسيناً كان يرى غير ذلك, فهو لا يعتبر سكو شرساً! المهم أنه دعا الرجل الضيف ذا الملابس النظيفة ليتفضل, وكما يفعل أهله الكبار. دخل إلى المنزل وأخرج العنقريب (السرير الخشبي) المجلد بجلد رأس الثور ووضعه في ظل الشجرة الكبيرة الوارفة, ثم عاد وملأ الإناء ماء وقدمه إلى الرجل الضيف ذي الملابس النظيفة قائلاً:

- تفضل واشرب يا عمي...

أخذ الرجل الضيف ذو الملابس النظيفة جرعة ثم حمد الله وشكره, ثم شكر حسيناً وأضاف:

- ولكن قل لي.. ما اسمك أيها الصبي الظريف?

رد حسين:

- اسمي حسين.

- وأين أهلك? قال الرجل:

ردّ حسين:

- لقد سافر أبي إلى المدينة مرافقاً لجارنا المريض, أما أمي فذهبت إلى السوق ومعها أخي الأكبر, وأختي فاطمة وأخي برهوم في المزرعة, وعمر ذهب يرعى الأغنام, أما جدتي, فقد ذهبت لجلب الماء وهأنت تراني وحيداً.

فقال الرجل الضيف ذو الملابس النظيفة:

- ولماذا لم تذهب مع أيّ منهم?

- لأني أحرس المنزل! رد حسين, فسأله الرجل:

- وهل أنت سعيد بذلك?

- نعم - قال حسين - فمادام لكل الناس أعمال يؤدونها, فلابد أن يكون لي أنا أيضاً عمل.

- أنت ولد جيد ونبيه, قال الرجل ثم أضاف:

- ولكن قل لي, تريد أن تصبح مثل من عندما تكبر?

- حكّ حسين أذنه, ونظر إلى السماء, ثم قال:

- أريد أن أكون مثل جدتي!!

- ها... ها... ها... ضحك الرجل الضيف ذو الملابس النظيفة حتى أن الطيور المسمّاة بـ (الطير الخضاري) ذات الريش الأزرق الذي يلمع في ضوء الشمس في الأيام المشمسة, قد طارت عن أغصان الشجرة التي كانت ترك عليها.

ولما أنهى الرجل ضحكته سأل حسيناً:

- ولماذا تريد أن تصبح مثل جدتك أيها الصبي?

ردّ حسين قائلاً:

- لأنها تفعل في الصباح أشياء كثيرة جيدة, وتحكي في المساء حكايات جميلة!

واستدرك حسين أن جدته ربما تأخرت, وفكر في إتمام إكرامه للضيف, فقام, دخل البيت وبحث عن عدة الشاي... هاهو الموقد, وبجواره الفحم, أخذ فحماً ووضعه فوق الموقد ثم حمله إلى الخارج, وفي الطريق, تعثّر حسين وسقط منه الموقد وأصدر صوتاً مزعجاً, فناداه الرجل مستفسراً, فأخبره حسين بما حدث بعد أن استعاد وضع الفحم على الموقد وحمله خارجاً وأضاف:

- أريد أن أصنع لك شاياً يا عمي..

فسأله الرجل متعجباً:

- ولكن أتعرف كيف تصنع الشاي يا حسين?

فكر حسين قليلاً ثم قال:

- والله يا عمي أنا لم أصنع شاياً من قبل, ولكني رأيت كيف تصنع جدتي الشاي, وأنا سأفعل مثلها.

فقال الرجل الضيف ذو الملابس النظيفة:

- حسناً, فمادمت متحمساً لذلك فدعني أساعدك, اذهب وهاتني الكبريتة وبقية مستلزمات صنع الشاي.

عاد حسين مرة أخرى إلى داخل المنزل - فهو يعرف أين تضع جدته الأواني, هذه هي الصينية (الطبق), وهذه العلبة? إنها علبة الشاي, أنا أعرفها قال حسين بعد أن هزّها وتأكد من وجود الشاي بداخلها, ثم وضعها, وهذه علبة الزنجبيل والحبّهان.. ياه..

هذه الحبهانة نكهتها حلوة! هذا طبعاً بعد أن تشممها.. وهذه العلبة الثقيلة الوزن! إنها بالتأكيد علبة السكر.. انظر.. كيف يتجوّل نمل السكر حواليها وبالقرب منها! فتح حسين علبة السكر ونظر في داخلها, رأى السكر الأبيض ذا الطعم اللذيذ... راودته نفسه أن يأخذ قليلاً من السكر ويسفّه! مد يده ولكنه أعادها فجأة من منتصف الطريق قائلاً لنفسه (عيب يا حسين, عيب أن تختلس السكر في غياب جدتك.. لابد أن تستأذن منها) أغلق حسين العلبة ووضعها مع بقية الأواني وحملها جميعاً إلى الخارج, وقبل أن يصل إلى الشجرة, حيث يجلس الرجل الضيف ذو الملابس النظيفة, رأى جدته, كانت قد عادت وهي تحمل جرّة الماء على رأسها, فألقت التحايا على الرجل الضيف ذي الملابس النظيفة, وحكى لها الرجل حكاية حفيدها معه, فسرّت سروراً عظيماً من تصرّف حفيدها وزاد فخرها به.

وقبل أن تدخل البيت, نادت الجدة حسيناً, وملأت له كفه بالسكر, وطلبت منه أن يجلس مع الضيف ويؤانسه حتى تعد له الشاي. فذهب حسين وجلس فرحاً بجوار الرجل الضيف ذي الملابس النظيفة يتلمظ السكر الذي لم يقلل من لذة طعمه تأنيب الضمير الذي كان سيحدث له لو أنه كان قد اختلس السكر في غياب جدته.

 

 


 

أبكر آدم إسماعيل