قدوتي العلمية


قدوتي العلمية

رسوم: ممدوح طلعت

المجريطي.. الرجل الذي يأكل الكتب!

(ما أوسع هذه القبة الزرقاء) ...

ذلك ما استرعى الصغير (سَلَمة), طوال سنوات طفولته, فكل شيء أمامه بالغ الاتساع, تلك القبة الزرقاء التي تزحف الشمس من شرقها إلى مغربها في النهار, وعندما يحل المساء, تلمع فيها النجوم الصغيرة البعيدة, وتتساقط منها الشهب البعيدة, ويظهر القمر متلألئًا, يتناقص, ويكتمل, حسب برنامج زمني محسوب.

أما الجزء الثاني من الطبيعة, فهي تلك التلال الخضراء الخلابة, التي تحوط بمدينة مدريد التي ولد فيها, والبيوت ذات الطراز الإسلامي, والحدائق الكثيرة, المتناثرة في أنحاء المدينة.

قال عنه أصدقاؤه من أطفال (المدرسة القرآنية) التي يتعلمون فيها جميعًا: (سلمة هو ابن الطبيعة).

أما أستاذه (جلفة), فقد قال: بل هو يحاول أن يفهم الطبيعة.

وشرح الأستاذ ما يقصده, فالصغير (سلمة بن أحمد) المولود في عام 954 ميلادي بالأندلس, يحاول أن يفهم سر كل شيء من حوله, وأن يطبق عليه تفوقه في علم الحساب والهندسة, إنه دائم السؤال عن مصادر الأشياء, كيف جاء الإنسان, وكيف عاش التاريخ, وماذا ترك من آثار.

ولم يعرف عنه زملاؤه, وهو يكبر معهم, سوى أنه شخص نهم للقراءة, يبحث عن الكتب القديمة, يحاول أن يستوعبها, لدرجة أن صديقه الشاب (عمرو) قال عنه:

- سَلَمة لا يقرأ الكتب بل يأكلها.

وأطلقوا عليه اسم (آكل الكتب), ومازحوه وهم يسألون (هل معدتك قوية لهذه الدرجة)?

كانوا يشيرون إلى رأسه الذي استوعب قراءة التاريخ القديم, والفلسفة, والحساب, والهندسة, وعلم الفلك, والكيمياء, والفلاحة, والحكمة.

قال بكل بساطة: المعرفة لا تنفصل, بل تتداخل, مثل أطباق الطعام.. نحن لا نأكل الصلصة وحدها, والخضراوات وحدها.

وعندما تزوج الشاب, عرف باسم أبو القاسم, لكنه بعد أن صار أبرز علماء عصره وهو دون الأربعين, أطلق عليه اسم (المجريطي), وتعددت أسماؤه, فناداه تلاميذه, والمعجبون بعبقريته (إمام الرياضيين في الأندلس).

كان قد شغف بما قدمه العالم الإغريقي الشهير من نظريات في علم الرياضة (بطليموس) فبدأ يترجم له كتابه. ونظر إلى القبة الزرقاء المليئة بالغموض, وقال:

- سوف أحاول كشف غموضك بأي ثمن. سوف أحسب مسافاتك بالرياضيات.

وراجع ما كتبه العالم العربي, (الخوارزمي) من جداول حسابية معقدة, واكتشف أنها تحتاج إلى إضافات.

وعكف (المجريطي) على إضافة جداول جديدة, تحتاج إليها جداول الخوارزمي في الرياضة.

كما أضاف بعض التعديلات على آلة الاسطرلاب التي اكتشفها العرب, وصار الجهاز أكثر كفاءة.

وفي سن الخامسة والأربعين, قدم كتابه الأول في علم الكيمياء, بعنوان (رتبة الحكم), ثم أضاف كتابًا ثانيًا إلى المكتبة العلمية العربية بعد سنوات باسم (غاية الحكيم).

وذات يوم, سمع أحد تلاميذه, يقول عنه:

- إنه مثل ورشة ضخمة, لإنتاج الكتب, والمعارف.

ساعتها ضحك (المجريطي), وتذكر كيف قال عنه زملاؤه إنه (آكل الكتب), فقال ضاحكًا:

- التهمت الكتب في شبابي, وهأنذا الآن أخرج كتبًا تفيد الآخرين.

فقد قدم أبحاثًا مهمة في علم التاريخ الطبيعي, وتأثير النشأة على الكائنات الحية, وقد يكون قد سبق العالم(داروين) في دراسة النشأة في الكائنات الحية, خاصة مواليد أو أصول النباتات والحيوانات, والأجسام الصلبة, وانتشرت كتاباته خارج بلاد الأندلس, وعكف على اختصار بعض الكتب العلمية الكثيفة, كي تصبح سهلة التناول لتلاميذه من بعده, ومنهم (ابن خلدون), الذي اعترف بفضل أستاذه المجريطي عليه.

وانتقل (المجريطي) إلى ربه في عام 1012م, وهو في التاسعة والخمسين من العمر, دون أن يعرف أن كتبه سوف تترجم جميعها إلى اللغة اللاتينية, وتصبح بمنزلة المراجع الأساسية للباحثين العرب, والعجم, في كل أنحاء العالم. وكتب (ابن خلدون) في مقدمته:

(كتابات المجريطي هي أساس فلسفة التاريخ, وحجر الزاوية فيه).

 

 


 

محمود قاسم