رسوم: حلمي التوني
الخليفة عمر بن الخطاب يركب ناقته ويسرع عبر الصحراء, ويتجه نحو الشمال, لا يتوقف إلا لأداء الصلاة, أما بالنسبة للطعام والنوم, فقد كان يفعل ذلك وهو على ظهر الناقة, وعبثاً حاول الذين يرافقونه أن يقنعوه بالراحة قليلاً, ولكنه كان يصيح فيهم قائلاً:
- كيف أرتاح وأهم مدينة فتحها المسلمون في انتظاري?
وبعد أيام من السير الشاق, تغيّرت الأرض وتبدّل الهواء, تحوّلت الرمال الصفراء القاحلة إلى هضاب خضراء, وأصبح الهواء الساخن نسيماً بارداً, لقد دخلت الناقة أرض فسلطين, وكان في انتظاره اثنان من أشهر قادة الجيوش الإسلامية خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح. كان هذان القائدان قد خاضا معارك طاحنة ضد الرومان الذين يحتلون بلاد الشام ويذيقون عربها المذلة, واستطاع المسلمون ان يهزموا الرومان في موقعة (اليرموك) وبذلك أصبحت كل المدن المهمة مفتوحة أمامهم وعلى رأسها مدينة القدس.
ساعد أبو عبيدة الخليفة على النزول وهو يقول له:
- حمداً لله على سلامتك يا أمير المؤمنين, الأسقف (صفرنيوس) وبقية قساوسة القدس في انتظاركم.
ساروا جميعاً إلى داخل المدينة, وأمام كنيسة (القيامة) التي تعتبر أهم وأقدم كنيسة في العالم, كان الأب (صفرنيوس) يقف وهو يمسك بمفاتيح المدينة, لقد أصر على ألا يسلم القدس إلا للخليفة شخصياً, فهي لم تكن مدينة عادية ولكنها مدينة تقدّسها كل الأديان, وتسلم عمر المفاتيح بعد أن آمن كل من فيها على أنفسهم ودينهم وأموالهم. حان وقت الصلاة, ونظر الخليفة إلى الكنيسة وهو يفكر, ثم قال في صوت مسموع:
- لو صليت في الكنيسة لكانت سنة من بعدي وسوف يستولي المسلمون عليها ويحوّلونها إلى مسجد.
ولم يكن يريد ذلك, فقد منح الحرية والأمان للجميع , وترك كل واحد من أهل المدينة يختار الدين الذي يقتنع به, لذلك فضل الخليفة أن يذهب بعيداً عنها حيث توجد صخرة مرتفعة عن الأرض, وقام بتنظيف المكان وصلى عليه شكراً لله, وصلى خلفه بقية القادة والجنود, على هذا المكان تقوم صخرة ذهبية اللون وهي التي نراها الآن في كل الصور التي تنشر عن مدينة القدس تلك المدينة الحزينة التي لم تنته آلامها حتى الآن, لقد زرع فيها ابن الخطاب المحبة والتسامح, ولكن الآخرين زرعوا فيها الألم والفرقة.
مدينة الصراع الطويل
أجل القدس مدينة حزينة, والسبب ذلك هي أنها واحدة من أهم المدن على ظهر الأرض, وقد جعلها هذا محلاً للصراع الدائم بين الجميع, فهي مدينة الأديان الثلاثة, يقول اليهود إن هيكل سليمان موجود فيها, وهو كلام لم يؤكد حتى الآن, لأنه لا يوجد أي أثر يدل على ذلك, فلا يوجد معبد لهم, بينما تزدحم المدينة بالآثار الإسلامية والمسيحية, لذلك فمن المؤكد أن المسيح قد سار في شوارعها وجلس مع أناسها في الأسواق, وأن الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام قد أسري به إليها ووصفها وصفاً دقيقاً لأهل مكة, وفي نفس هذا المكان بني المسجد الأقصى.
لقد بنى القدس أهل فلسطين من بني كنعان, وكانت أهم مدينة في طريق قوافل التجارة المتجهة إلى مصر وبقية أفريقيا والجزيرة العربية, وعندما هاجر اليهود إلى فلسطين طمعوا فيها, مثلما يحدث الآن تماماً, ففي عهد داود - عليه السلام - استطاعوا أن يستولوا عليها, ولكنهم لم يستقرّوا بها طويلاً, فقد هاجمهم الملك الفارسي نبوخذ نصر, ودمّر المدينة, ونقل من فيها من اليهود إلى بابل, وطوال هذه الفترة واليهود يواصلون التسلل خلسة إلى فلسطين, إلى أن جاء الرومان وطردوهم منها, بل وحرموا عليهم دخولها نهائيا.
استمر حال المدينة المضطرب حتى جاء الفتح الإسلامي, فعمّ المدينة السلام والرخاء, وتوافد الكثير من العرب إليها, وبنيت المساجد بجوار الكنائس, وبنى الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان قبّة الصخرة المشرفة, وبنى ابنه الوليد بعد ذلك بسنوات قليلة المسجد الأقصى الذي يعد أشهر ثالث مسجد في العالم بعد مسجدي مكة والمدينة, وذلك بعد سبعين عاماً من هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام .
استمر سلام القدس على مدى حوالي 300 عام فقط, ففي العصور الوسطى ارتفعت في أوربا صيحات الاستيلاء على القدس وإنقاذها من أيدي المسلمين, كانت أوربا في هذا الوقت - كما يطلقـــون عليهـــا - قارة مظلمة يسودها الجهل والتخلف, وقد رفع بعض المتعصبين دينياً هذه الدعــــوات لإلهــــاء الناس عن مشاكلهم الداخلية, والاستيلاء على أرض الشرق التي كانوا يعتقدون أنهـا غنية بالثروات والذهب, وهكذا تدفقت على أرض فلسطين عشـــرات السفن تحمـــل آلاف الجنود الذين يحملون علامة الصليب ويدّعون أنهم يحاربون تحت رايته, وكان العالم الإسلامي في تلك الأيام يمر بحالات من الضعف والوهن, لذلك لم يجدوا أي مقاومة حقيقية تقف في طريقهم, ودخلت جيوش الصليبيين مدينة القدس واحتفلوا بانتصارهم بارتكاب واحدة من أكبر المذابح التي عرفها التاريخ, فقد قتلوا سبعين ألف واحد من سكانها من المسيحيين والمسلمين, وأعلنوا قيام مملكتهم في القدس.
تحت الأسوار
بعد ثمانية وثمانين عاماً من سقوط القدس في أيدي الصليبيين, وقف صلاح الدين تحت أسوارها, كان بجانبه قواده وأخوه الكامل وخلفه جيش عربي متأهب للقتال, قال له أخوه الكامل:
- هل نهاجم المدينة يا أخي?
قال صلاح الدين:
- لا أريد أن أدمّرها أو أن أقتل أهلها, إن فيها الكثير من المساجد والكنائس والأديرة ولا أريد أن أفعل بها كما فعل الصليبيون.
لم يكف صلاح الدين منذ أن تولى حكم مصر عن خوض المعارك من أجل تحرير كل المدن التي استولى عليها الصليبيون في فلسطين, والتقى مع الصليبيين في معركة كبيرة عند تل صغير اسمه (حطين) واستخدم براعته في رسم خطط القتال حتى حاصرهم, ووصف المؤرخون هذه المعركة قائلين: (إنك إذا رأيت القتلى حسبت أنه لا أسرى, وإذا رأيت الأسرى حسبت أنه لا قتلى), وذلك لكثرة عدد المحاربين.
كانت معركة حطين تشبه معركة اليرموك القديمة تماماً لأنها جعلت الطريق مفتوحاً أمام الجيوش العربية لتحرير القدس مرة أخرى, ولكن صلاح الدين كان يريد أن يأخذ المدينة سليمة, لم يكن يريد أن يدمّر المسجد الأقصى أو كنيسة القيامة, لذلك فرض حصاراً كبيراً على أسوارها, وبدأ يضرب المدافعين عنها بالمنجنيق, وهو مقلاع من الخشب يرسل كريات اللهب, في الوقت نفسه الذي كان فيه فريق من المنقبين يبحثون عن نقطة ضعف في سور المدينة يستطيعون الدخول منه, وقد حاول الصليبيون المقاومة بكل طاقتهم, واستمر الحصار أياماً طويلة إلى أن أدرك الصليبيون أنه لا أمل لهم في النجاة, واستطاع العرب أن يفتحوا ثغرة كبيرة في أسوار المدينة, وأصبح دخولهم إليها وشيكاً, وأصيب الصليبيون بالذعر وأخذوا يبكون, وبدأوا يفاوضون صلاح الدين, وكانت شروطه بسيطة, وعفا عن من لا يملك مالا منهم, أما المسيحيون الشرقيون من سكان المدينة, فقد أبقاهم آمنين في بيوتهم, لقد كان يريد أن يعيد السلام إلى مدينة السلام.
مدينة في محنة
ولكن كل هذا لا يقاس بجانب المحنة التي تعاني منها مدينة القدس الآن, ويمكن القول إن هذه هي أسوأ مرحلة تمر بها في تاريخها الطويل, فمنذ أن استولت العصابات الصهيونية على فلسطين وأعلنت قيام دولة إسرائيل في عام 1948 وهي تطمع في هذه المدينة, وقد تحقق لها هذا الأمر عندما استولت على نصف المدينة الغربي في هذا العام, ثم استولت على نصفها الثاني الشرقي بعد الهزيمة العربية في عام 1967, ومنذ ذلك الحين وهي تسعى لتحويلها إلى مدينة يهودية, فهي تطرد العرب وتهدم بيوتهم, وتفرض القيود على تحرّكاتهم, بل إنها تمنعهم من الصلاة لأوقات كثيرة داخل المسجد الأقصى.
ورغم هذا التاريخ الطويل للقدس, فإن الوجود اليهودي فيها كان لفترات قصيرة جداً, لذلك فإن إسرائيل تحاول أن تزوّر هذا التاريخ, وأن تجد لنفسها أي مكان وسط المقدسات التي تزدحم بها المدينة, وعدوّها الرئيسي في هذا الأمر هو المسجد الأقصى الذي يرتفع بقبته الشامخة رمزاً للحضارة العربية والإسلامية, لذا فقد سعت لحرق هذا المسجد أكثر من مرة, كما أنها تقوم بالتنقيب تحته حتى تخلخل أساساته لعله ينهار, وأخذت الحائط الغربي من المسجد, وادّعت أن هيكل سليمان موجود تحته, وأخذت تطلق عليه (حائط المبكى). حتى الكنائس لم تسلم من إسرائيل, فقد تم نهب محتويات كنيسة القيامة, وصودرت الأراضي التي كانت تملكها, كما أنها صادرت أحياء بأكملها وأفرغتها من سكانها العرب ووضعت اليهود بدلاً منهم, ومازالت تواصل تشويه كل معالم المدينة التاريخية.
ولا تتوقف أحزان مدينة القدس وهي لا تجد خلاصاً من هذا الاحتلال, إنها في انتظار صلاح الدين من جديد حتى يحررها, ولكن أبناء شعب فلسطين يقاومون الآن, ورغم أنهم لا يملكون سلاحاً رهيباً مثل الذي يملكه الجيش الإسرائيلي, إلا أنهم لا يكفّون عن التضحية بأنفسهم مؤمنين بأن الحرية غالية الثمن, وأن هذه المدينة المقدسة تستحق كل التضحيات.