تشارلز تاونز.. أقوى من ضوء الشمس

تشارلز تاونز.. أقوى من ضوء الشمس

رسـوم: محمـد نــادي

إنه رجل ضل طريقه إلى العلم, كما قال أحد أقربائه, فهو من أسرة انشغلت دوما بالمحاماة, وأعمال التجارة, وكان من المفروض أن يكون رجل أعمال كبيرا, مثل بقية الأسرة التي نزحت من إنجلترا, كي تستقر في ولاية (كارولينا) حيث ولد (تشارلز) في يوليو 1915.

كان مكاناً ساحراً, ليس للأفق حدود فيه, تملؤه المزارع, والطيور, والحشرات.

وهي أشياء جذبت انتباه الطفل إلى التعرّف عليها, ودراستها. كان أصغر أخوته, وقد رحل الجميع خارج المكان من أجل الدراسة, والعمل, لذا أحس أن المكان يخصه وحده. مما أعطاه فرصة للتأمل, خاصة أنه قرر أن يسير على خطى أخيه (هنري) عالم الحشرات في احدى الجامعات.

وكان (تشارلز) تلميذاً غريب الأطوار, فهو يحصل على أقل الدرجات في الكثير من المواد, لكنه أكثر من متفوق في الرياضيات واللغات, مما دفعه للسؤال:

- لماذا لا يدرس التلميذ المواد التي يحبها فقط?

ويكون الجواب هو: لأن المعارف متصلة مع بعضها البعض وليس بمعرفة واحدة يعيش الإنسان.

وكان الجواب مقنعا للغاية, وحاول الصغير أن يعوض ذلك عن طريق السفر, والتأمل, واكتشف أن الأشياء التي يراها بعض الزملاء صعبة للغاية, يتعامل هو معها بسهولة.

وقال بكل إصرار: لاشيء صعب بعد اليوم.

ووجد الصغير نفسه وسط دوائر متعددة من الاهتمامات, لذا فهو لم يختر طريقه بسهولة, كان, بناء على التغير الذي أحدثه في نفسه, يمكن أن يصبح شخصاً ناجحاً في العديد من المجالات, أن يكون لاعباً متفوقاً في كرة السلة, أو أن يكون أديبا, أو ربما ممثلاً في مدينة السينما, (هوليوود).

لكنه اكتشف أن للعلوم سمة بالغة الأهمية, حين قال يوماً لأخته:

- العلوم هي النشاط الإنساني الوحيد الذي لا يحتاج إلى الثرثرة.

وبالفعل, فقد دخل إلى عالم العلوم الطبيعية, لأنها تتفق مع طبيعته في القدرة الفائقة على التأمل, ولكنها تقوم على النتائج الملموسة, أكثر من التخمين, كما أنها تتفق مع العقل, ويحاول العالم من خلالها العثور على إجابات حول المسائل الغامضة في الكون من حولنا.

ورغم ذلك, فإن (تشارلز) لم يقطع علاقته ببقية الاهتمامات, وأحسّ أنه لو فعل ذلك فسوف يتخلص تماماً من رأسه.

وهكذا, صار الصغير أكثر إحساساً بالمسئولية, وأثار الدهشة من حوله, فهو الماهر دوماً, حين فاز بالميدالية الكبرى في السباحة, وهو طالب في الجامعة, كما عرف أنه لا يكفّ عن أداء واجباته الدينية, بشكل منتظم.

لكن الأمور تغيّرت, بعد أن تخرّج من الجامعة, وقال يوماً لزميل له:

- خسارة, فالبحث العلمي قلل من الوقت الذي كنت أخصصه لعزف الموسيقى.

قال الزميل وهو يشير إلى بعض الأجهزة التي يقيم طلاب الدراسات العليا عليها تجاربهم:

- لكل شيء نحبّه موسيقاه, وأنغامه, الكرة في الملعب لها إيقاع, والآلات في المعمل لها موسيقى.

وانتبه (تشارلز) إلى ما قاله زميله, وقرر أن يتعلم الموسيقى الجديدة المنبعثة من الأجهزة المعملية, وبدأ يتردد على الشركات الصناعية الكبرى في أنحاء الولايات المتحدة, وركب العديد من الطائرات الحربية أثناء فترة التدريب, كي يتعرف على ما ينقصها من كفاءات لتؤدي مهمتها على خير وجه.

كان يواجه العديد من المتاعب في مهامه, خاصة من العسكريين الذين لم يخبروه بمتاعب الأجهزة, حيث قال واحد منهم يوما:

- إنها أسرار عسكرية, ولا يمكن أن نبوح لك بها.

وضحك (تشارلز) يومها من أعماقه, وقال: أنا هنا لأصلح متاعب الأجهزة, وليس للتجسس على أسرار الأسلحة. أنا عالم.

ومن أجل ذلك, كان يبادر دوماً بالاكتشاف, وليس العكس, ويقدم إلى المؤسسات العلمية التي يعمل معها الاختراع الأنسب لهم. وقد ساعده في ذلك أن العالم كان في حرب قاسية لا تنتهي, ولا يعرف أحد كيف ستنتهي, لذا كان عليه أن يختصر الوقت من أجل أن يخترع شيئاً يساعد في حسم الحرب.

وهنا ظهر (الميزر) لأول مرة في التاريخ.

إنه جهاز صغير منفصل يمكن تركيبه في العديد من المخترعات الحديثة, فيزيد من كفاءة كل منها, خاصة الأجهزة العسكرية, وأجهزة أبحاث الفضاء. ومنها التسلكوب اللاسلكي, حيث جعل الاتصال ممكنا عن طريق الأقمار الصناعية.

وعندما وضع (الميزر) لأول مرة في أجهزة الرادار زادت كفاءة الجهاز في رصد الأجسام الطائرة, والمتحركة عن بعد بعشرات الأضعاف من القدرة التي كانت عليها فيما قبل.

كما أن (الميزر) استطاع أن يقوم بتكبير الضوء, بطريقة مباشرة, ويولد أنقى أنواع الضوء.

فهو وراء الأضواء الساطعة التي نراها تسطع في الأندية الرياضية ليلاً, وتحوّل أرض الملعب, كأنما الشمس تسطع في داخله دون درجة حرارة عالية.

لذا قال أحد العلماء يوما: أنه الاختراع الأكثر أهمية, بعد (الترانزستور).

و (الترانزستور), بالطبع, هو الاختراع بالغ الصغر الذي ساعد العلماء والمخترعين إلى تحويل كل المخترعات إلى أحجام غاية في الصغر.

كان العالم الشاب قد عثر على موسيقى خاصة به مع كل تجربة ناجحة, واكتشف ذات يوم أن العلم يأتي بالمال الكثير, حين عمل في إحدى الشركات الصناعية الكبرى, ونال مرتباً يساوي عشرة أضعاف ما سبق أن حصل عليه من قبل.

وفي عام 1953 نجح (تشارلز) في الحصول على ما يمكن تسميته بـ (الشعاع العملاق). إنه شعاع قوى بالغ النقاء ساعد في تقوية (الميزر) فيما يسمى بالساعات الذرية, التي ساهمت في تطوير النظرية النسبية. حيث يصدر (الميزر) أشعة ذات موجة واحدة فيكون الضوء الصادر منها أقوى من ضوء الشمس.

 


 

محمود قاسم