قدوتي العلمية


قدوتي العلمية

رسوم: ممدوح طلعت

الصوفي صديق النجوم

(سوف أتبع هذا النجم حيثما ذهب).

شيء ما يلمع في السماء البعيدة, وسط الليل الصامت, لاشيء يتحرك هنا أو هناك إلا عينا الصبي الصغير (عبدالرحمن), وهما تلاحقان النجم الذي يبرق من بعيد, كأنه يناديه (أيها الصغير...أنا هنا).

وكأنما (عبدالرحمن) أراد أن يبلغ نجمه اللامع أنه موجود أيضًا, فراح يتمتم (وأنا أيضًا هنا..كل يوم, سأكون هنا).

حدث ذلك في أول عام من القرن الرابع الهجري, والموافق العام 039م في مدينة (الرمي) التي تحفها الصحراء من كل مكان, حيث يخرج الصغير (عبدالرحمن) الابن الوحيد, لأحد التجار الصغار في المدينة, والذي سأله عندما عاد إلى الدار:

- ماذا تفعل في هذه الساعة يا ولدي?

رد عليه الابن: كنت أتحدث مع صديقي.

وتصور الأب (عمر بن سهل الصوفي) أن مسًا من الجنون أصاب ابنه, فهو يتحدث إلى نجم بعيد, لا يعرفه, ويتكلم إليه, قال الأب:

- لا تفعل ذلك خوفًا من أن تتشتت أفكارك.

رد الابن في ذكاء ملحوظ, وهو ابن التاسعة من العمر:

- لا تقلق يا أبي, فقط أحاول أن أتعرف عليه, وأن أكتشفه, وهو وسائر النجوم.

في هذه الليلة, بدأت حياة الصغير تتغير, فقد بدأ أبوه يشاركه هوايته, وهو الرجل المؤمن بالله, وكتابه, وسنة رسوله, وعليه أن يبحث مع الابن عن مسيرة ذلك النجم اللامع الذي شد انتباهه.

كان الصغير, قد حفظ القرآن الكريم, وهو في الثامنة من العمر, مما يعني أنه سريع الاستيعاب, لذا, فقد قام الأب بإحضار كتب الفلك, كي يقرأها.

وقبل أن يبلغ (عبدالرحمن) الخامسة عشرة, كان قد أتقن اللغة اليونانية القديمة, وراح يترجم عنها مؤلفات علماء الفلك القدامى.

ولم تمض سوى خمس سنوات, وقد تمكن من معرفة أن النجم اللامع الذي صادقه ليس سوى نجم ثابت في السماء, مثل مئات النجوم الأخرى, التي تلمع في السماء ليلاً.

وسمع الخليفة (عضد الدولة) عن الشاب النابغة, في علم الفلك, فاستدعاه إليه, وضمه إلى مجالس العلماء, فتتلمذ على يد كبارهم, وأهداهم ما ترجمه عن علم الفلك, من مؤلفات الأقدمين, خاصة (بطليموس) وتلاميذه.

وبدأ (عبدالرحمن) في تأليف كتابه الذي أثار دهشة من حوله, (كتاب الكواكب الثابتة), والذي عدّد فيه أسماء هذه الكواكب الثابتة في الفضاء, والتي يمكن رؤيتها عن طريق العين المجردة, أو أجهزة الرصد التي كانت معروفة في تلك الفترة.

لم يعرف (عبدالرحمن الصوفي) الراحة, كان ينام النهار بطوله ويجلس في مرصده الذي خصصه له الخليفة (عضد الدولة), وفي هذا المرصد الذي يطل مباشرة على الصحراء, بدأ في التأليف دون توقف, وبعد سنوات عدة, انتهى من مؤلفه الثاني (كتاب الأرجوزة في الكواكب الثابتة) الذي أكّد فيه أن النجوم الثابتة يزيد عددها عن العدد المتعارف عليه آنذاك, ألا وهو 1025 نجمًا ثابتًا.

وقال في كتابه إن النجوم المتحركة, أو الخفيفة, هي أيضًا أكثر من العدد الذي يعرفه العلماء بكثير.

وقد أدهش (الصوفي) رفاقه العلماء بكتابه هذا, فهو يمتاز برسومات ملونة للأبراج الفلكية وبقية النجوم في السماء, كان قد رسمها بإتقان شديد, يثبت موهبته في الرسم, والتوضيح, فقد صور الأبراج المعروفة لنا, مثل السرطان, والجوزاء, والجدي, وغيرها على هيئة حيوانات وبشر, منها ما هو على صورة رجل, أو سيدة, ومنها ما هو دب, أو أسد, أو تنين.

وصارت كتبه التالية مرجعًا مهمًا في علم الفلك, والتي كتبها على مدى عمره الطويل, ومنها (كتاب التذكرة), و(كتاب مطارح الشعاعات).

وكم تمنى (الصوفي) أن ينتهج ابنه (الحسين) المنهج نفسه في حب النجوم, وأن يستكمل رحلته في أن تكون صديقته, مثلما فعل أبوه معه, وهو صغير السن.

لكن (حسين) أحب أن يكون تاجرًا, يتنقل بين البلاد, إلا أن الصوفي قال:

(أنت تسافر بين البلاد, أما أنا, الفلكي, فأرحل مع أصدقائي النجوم عبر الكون الواسع الذي ليست له نهاية).

وفي عام 986م رحل (الصوفي) عن عمر يناهز الثلاثة والثمانين, وبعد وفاته بقرون, قال عنه تلاميذه العلماء الذين استفادوا من كتبه:

كان كتابه (الأرجوزة في الكواكب الثابتة), أصح من كتاب بطليموس, بالرغم من أن بطليموس أكثر شهرة.

أما العالم (سارتون) فقد قال: كتاب (الكواكب الثابتة) هو أهم ثلاثة كتب في علم الفلك عند العرب على الإطلاق.

 


 

محمود قاسم