أبي خطاط


أبي خطاط

الخط الحسن يزيد الحقَّ وضوحًا, هذه كلمات الإمام على بن أبي طالب, كرم الله وجهه, التي دائما ما سمعتُ والدي يرددها وهو يتأمل لوحة انتهى منها لتوه تحمل آياتٍ من المصحف الشريفِ, أو أبياتٍ من الشعر العربي, أو حكمة, أو مثلا شعبيًا يعكس الخبرة التي تتناقلها الناس جيلاً وراء جيل.

وعلى الرغم من أنني كنت بعد صغيرة جدا, ولم يكن يتصور مدى تعلقي بفنه إلى هذا الحد, إلا أنني كنت أستشعر متعة لا حد لها, وأنا أجول ببصري على سطح الورق أو القماش أو الخشب متأملة خطوطه المختلفة التي عرفت بعد ذلك أنها: فارسي, كوفي , ديواني, ورقعة, بل وأصبحت أمتلك خبرة التمييز بينها.

عندما سألت والدي سعيد عبد الرحمن عن مشواره مع الفن الجميل, وكيف بدأ أجابني: (ربما يعود ذلك إلى سنوات دراستي في المرحلة الابتدائية, ففي يوم من الأيام لفت انتباهي مدرس اللغة العربية وقد فرغ من الكتابة على السبورة, فإذا بلوحة بديعة تشكلت أمامي, ومازلت أذكر أنها كانت داخل شكل دائري, وعرفت فيما بعد أن هذا الخط اسمه الثُلث, وهو من أقوى الخطوط وأجملها فإذا أجاده الخطاط, شهد له بأنه بارع, وسيكون بمقدوره عندئذ أن يكتب باقي أنواع الخطوط).

وأضاف أبي: (منذ ذلك اليوم نما في أعماقي تذوق هذا الفن البديع.. فن الخط العربي, الذي حمل للعالم عبقرية ثقافتنا وفنون إبداعنا الأدبي. وهو فن دائم التطور, فقد تعددت أنواعه وكثرت أنماطه ما بين: نسخ, وثلث, وثلث جلي. وعندما عبرت من المرحلة الابتدائية إلى الإعدادية فالثانوية, كان ولعي بهذا الفن يزداد, وملاحظتي لآثاره الباقية, سواء هنا في وطننا العربي أم في ربوع العالم, تنمو).

وقد علمت من والدي أيضا أنه وجد صدى لهذا الاهتمام بفن الخط العربي لدى أحد أصدقائه الذي ذهب لزيارته يوما ما, فإذا به منهمك في رسم لوحة خط, فقد دعم صديقه هذا الاهتمام بالدراسة في مدرسة الخطوط العربية بالقاهرة. وهنا أدرك والدي أن الإعجاب بهذا الفن يجب أن يتحول إلى خط آخر يدعم الموهبة بالدراسة, وعلى الفور التحق أبي في سنة 1968 بهذه المدرسة, التي مكنته من امتلاك ناصية الكتابة وفق قواعدها, ليتخرج فيها عام 1971, وكان ترتيبه الثاني على مستوى جمهورية مصر العربية.

وقد قربني والدي إليه حتى أنني أصبحت مساعدته في إعداد لوحاته للكتابة عليها, وعادة ما يبدأ ذلك عقب انتهاء واجباتي الدراسية في الجامعة, والآن بعد أن أفرغ من واجباتي الصحفية.

ولا يمكن أن أصف مدى سعادتي باقترابي منه وهو يرسم, وأذنه معلقة بأصوات أساطين (كبار المنشدين) الغناء القديم: عبد الوهاب, أم كلثوم, محمد عبد المطلب, أسمهان, عبد العزيز محمود, محمد قنديل, محمد رشدي, ليلى مراد, وشادية. ويبدو أن هناك علاقة خفية بين ما تسمعه الأذن وما تراه العين أثناء لحظة إبداع لوحات الخط العربي الجميلة. فابي لا يرسم أو يكتب إلا وقد امتلأت روحه بهذا النغم.

ومن فرط دقته وإخلاصه لفنه اختارته وزارة التربية والتعليم مع صفوة خطاطي مصر ليحرر كل عام شهادات تخرج تلاميذ مصر وطلابها من المرحلة الابتدائية وحتى أعتاب الجامعة.

ولم أنسَ سؤال والدي عن أساتذته الذين وضعوا البصمة واضحة في عقله ووجدانه فيقول:

أستاذي الذي أولاني رعاية خاصة هو الفنان محمود الشحات, فقد كان له الفضل الأول في تحسين مستواي وتقدمي في هذا الفن في وقت قياسي, وإن كنت تعلمت على يد أكثر رواد هذا الفن ممن عايشتهم أو اطلعت على أعمالهم بدءا من: محمد حسني, والد الفنانتين سعاد حسني ونجاة الصغيرة, ثم سيد إبراهيم, ومحمد علي المكاوي, ومحمد عبد القادر, ومحمد أبو الخير.

واعترف لي والدي بأن: كلما كتبت لوحة ازدادت رغبتي في عمل المزيد لا تكل أناملي التي لا تعرف إلا الجميل, ولا تكتفي بغير التجدد والإبداع, وكان لدوري في تدريس هذا الفن البديع ما يجعلني أساهم في نقل خبراتي ومواهبي لطلابي الذين ساروا على نهجي.

وفي النهاية أردد مع والدي: الخط للأمير جمال, وللفتى كمال, وللفقير مال, والخط عقال العقل لأن الفنون الجميلة عالم; الموسيقى لسانه, والشعر وجدانه, والتصوير جسمانه, والخط لسانه ووجدانه وجسمانه.

 

 

 


 

أمنية سعيد