بيتنا الارض

بيتنا الارض

سر الحمامة المكتئبة

في ساحة (أمين أونو) بالمدينة التركية (اسطنبول) اشترى خضور حفنة من القمح من البائع المقرفص وراء أكياس الحبوب المصفوفة على الأرض عند طرف الساحة, وراح ينثرها وسط الحمام المتجمع أمام درج المسجد, يطعم الحمام ويستمتع بمنظره وهو يفزع مرفرفاً بالعشرات قرب سطح الأرض ثم يحط في تزاحم ليلتقط الحب.

كانت مشاهدة الحمام ممتعة حقاً حتى أن خضور كرر شراء حفنات القمح ونثرها مرات عدة, وانتبه وهو يفعل ذلك إلى حمامة منفردة بعيداً عن تزاحم الحمام, لم تكن تطير ولا تقترب لتأكل, ولولا أنه تأملها طويلاً لبدت ميتة إذ لم تكن تتحرك إلا نادراً عندما تدير رأسها ببطء - كل بضع دقائق - وتنظر هنا أو هناك, وفي واحدة من التفاتاتها هذه نظرت إليه وثبتت عليه عينها الصغيرة المدورة السوداء.

أحس خضور بدوار خفيف مع استمرار نظر الحمامة إليه, وخيّل إليه أنها تبكي, بل رآها تبكي بدموع مثل البشر, دموع صغيرة شفافة راحت تتساقط من العين الصغيرة المدورة لكنها لا تصل أبداً إلى الأرض بل تتلاشى في الهواء, تعجب خضور لذلك, وزاد تعجبه مع سماع هديل بعيد أخذ يقترب وهو يطفو في الهواء مقترباً من عين الحمامة التي صارت دائرتها تتسع تتسع تتسع حتى احتوته, ووجد الحمامة تكلمه وهو يفهم الكلام:

(مرحباً أيها الشاب ذو الملابس الخضراء, يبدو لي أنك طيب وعطوف, لهذا سأخرج عن صمتي لأكلمك لعل الكلام يريحني قليلاً, لقد رأيتك مسروراً بمنظر الحمام المتزاحم في هذه الساحة, لكنني أصارحك بأن هذا لا يدعو أبداً إلى السرور, نعم إنني حزينة, بل مكتئبة كما تصفون الحزين إلى درجة المرض في عالم البشر, وسبب حزني هو هذه الحالة التي صرنا عليها نحن الحمام, لقد كنا قبل الارتباط بعالم البشر أحراراً, نحلق في سماء الله الواسعة بارتياح ونسعى وراء رزقنا مهما بعد, ونأوي في آخر النهار إلى أعشاشنا على أغصان الأشجار العالية, ثم أغوانا الإنسان بالحياة السهلة فتبعناه وصرنا حماماً داجناً, نسكن بقربه وهو يقدم لنا الماء والغذاء والمأوى, صحيح أنه كان يستخدمنا لتزيين الميادين والبيوت ويذبح البعض منا ليتغذى به, لكنه في معظم الأحوال كان رءوفاً بنا حتى أنه كان يبني لنا مساكن في بيوته, وأجمل هذه المساكن كانت تدعى (بيوت الطيور), ولاتزال اثارها موجودة هنا في اسطنبول كما في العديد من الأبنية الإسلامية القديمة بأماكن متفرقة من العالم... سأريك بعضاً منها...).

شعر خضور بالذهول إذ وجد جناحين ينبتان في جنبيه, ثم رأى الحمامة تطير وهو يطير بصحبتها, حلّقا في سماء اسطنبول ثم هبطا نحو بناء إسلامي قديم, وفي أعلى واجهة البناء تراءى جزء بارز, اقتربا منه وقالت عنه الحمامة إنه أحد (بيوت الطيور) التي اعتاد المعماريون المسلمون تشييدها في الأبنية التي يعمرونها, تعبيراً عن الرحمة بالحيوان وتجميلاً للبيوت التي يرف حولها الطير ويأوي آمناً في أركانها.

كان بيت الطيور صغيراً وجميلاً يشبه أبراجاً متلاصقة بها مخارج ومداخل تيسر على الطيور أن تأوي وتنطلق متى تشاء, وأن تحتمي هي وأفراخها من وهج الشمس وبلل المطر وعصف الريح, كما أن بناءها المعلق يحميها من زحف الأفاعي وخطف الجوارح, كان بيتا للطيور صغيراً جميلاً بحق, يعكس العطف العميق في قلب المعماريين المسلمين على ألطف مخلوقات الله, ثم انطلق خضور طائراً مع الحمامة يتفقدان بيوت طيور أخرى, كانت جميعها منمنمة وجميلة, لكنها مهدمة من أثر السنين, وبينما كانا يطيران عاد خضور يسمع صـــوت الحمامـــة تكلمه:

(مضت أيـــام بيــوت الطيـور يا صاحبي, والقليل المتبقي منها تهدم, لم يعد البشر يحفلون ببناء مثلها في مساكنهم التي صارت صناديق أسمنتية متلاصقة متزاحمة, لا جمال فيها ولا رحمة, لم يعد لنا مأوى, ولم نعد قادرين على بناء أعشاشنا على أغصان الشجر الذي اجتاحته غابات الاسمنت, فقدنا القدرة على اجتلاب طعامنا بأنفسنا, وصرنا مشرّدين على الأسطح وفي الميادين وعلى الأرصفة, نتسوّل الحب الذي تليه لنا أيادي المحسنين والمتفرجين, ونتزاحم بعداوة وغباء ونحن نلتقط طعامنا على الأرض التي تلوثها فضلاتنا, فأيّ جمال في ذلك?! إنها مأساة تدعو إلى الحزن, بل شدة الحزن... نعم شدة الحزن).

وجد خضور نفسه أمام عين الحمامة المكبرة بأكثر من ارتفاع قامته, وسرعان ما أخذت العين تبتعد فتصغر وهو يعود إلى حجمه الطبيعي ويتلاشى جناحاه, رجع إنساناً عادياً في ساحة (أمين أونو) حيث يتجمع الحمام, يطيل النظر إلى حمامة ساكنة عند طرف الساحة, يستغرب ابتعادها وعزوفها عن الطعام, ويستغرب التجربة التي مر بها وهو لا يدري إن كانت واقعاً, أم حلم يقظة!

 


 

محمد المخزنجي