العودة الى الجنوب

العودة الى الجنوب

نَظَرت ابنتي الصغيرة, وهي تجلس بجانبي, على الشرفة المطلّة على البحر, إلى طيور بيضاء تطير في أوّل المساء, من الغرب إلى الشرق, على شكل رفّ يتقاطع حيناً, ويتفرّق حينا آخر, مثل مروحة بيضاء في الهواء, وقالت لي:
ما اسم هذه الطيور?
قلت لها: الحمام.
قالت لي: إلى أين تذهب في المساء?
قلت: إلى منازلها.
قالت: أين منازلها?
قلت: على سطوح المنازل.. هناك.
قالت: هل نحن, لأننا نعيش على هذه السطوح, في بيروت, حمام أبيض?

ضحكت وقلت لها: للحمامة منقار أسود, وجناحان أبيضان, فأين منقارك أنت وأين جناحاك, لتصبحي كالحمام?

فحرّكت طفلتي ذراعيها في الهواء, كما لو أنها تريد أن ترقص, وقالت: ها هما جناحاي... ومدّت يدها إلى فمها الصغير, وقالت: وهذا منقاري. ثم استطردت قائلة: ما دام الحمام يعود إلى منازله في أوّل الليل, فلماذا لا نعود نحن إلى منازلنا?

قلت لها: هل تعرفين أين هو منزلنا يا ابنتي?
قالت: نعم.. هناك في الجنوب.. وأشارت إلى جهة بعيدة.
قلت لها: هل تعلمين أن هناك من يطلق علينا النار إذا عدنا?
قالت: نعم.. ولكن, لماذا لا نطير إليه كما تفعل الطيور?
قلت لها: هيّا معي.
أخذتها بين يديّ, وضعتها على كتفي وقلت لها: أغمضي عينيك سوف نعود معاً إلى المنزل.
أغمضت ابنتي جفنيها الجميلين. هي كانت تعلم أننا نلعب معاً لعبة من تلك الألعاب التي يقوم بها الأطفال عادة, ويعرفون أنها غير حقيقية, وأنّ مصدرها الخيال. ومع هذا, فقد فعلت ذلك, واستسلمت للعبة.

أخذت بيدها, ومشينا معاً في الهواء, في اتجاه المنزل.
كانت السماء التي طرنا فيها, سماءً صافيةً بلا غيوم, على الأفق, شمس يوليو ترشّ أضواءها الذهبيّة على الحقول, فيظهر كل شيء من تحتنا وكأنه يرقص في مهرجانٍ من الأضواء. والقرى المنشورة على السهول وبين الجبال, تُطوى من تحتنا طيّاً, ونحن نحلّق في هواء ناعم, وكأننا نطير على بساط سحري من ألف ليلة وليلة.

لم يكن ثمة حواجز شائكة في الهواء تمنعنا من التقدّم نحو الجنوب.

كانت تحفّ بأقدامنا العارية, جوانح طيور كثيرة, تدور حولنا, أو ترافقنا أحياناً, على شكل سربٍ صغير.

الماعز الجبليّ يسرح بين الصخور, والراعي الجالس على الصخرة يراقب القطيع, وقد اتكأ على عصاه, ووضع الزاد ومطرة الماء إلى جانبه.

وربما وصل إلى آذاننا صوت أحد الفلاّحين, وهو يجمع الحصاد من حقله ويغنّي:

(أهْ يا ريمْ
يا جايي من كَفْرا
آهْ يا ريمْ
يابو حَطّهْ صفرا
آهْ يا ريمْ
سلّمْ عمحبوبي
).

ها هو نهر الليطاني, يشقّ الحقول, مثل شريان طويل أزرق من المياه, وتنتشر على جانبيه المزارع والبساتين.

بعض السابحين يستحمّون في النهر, يشاركهم في ذلك أولادهم, والنساء تُعِدُّ الطعام على مواقد من الحجر بين الأشجار.
آهِ ما أجمل هذه القرى الهادئة وما أعذبها... وما أجمل مشهد الدخان وهو يتصاعد كغيوم بيضاء من أعالي المداخن, وينعقد في الجوّ, ثم يتبدّد مع الهواء. لهذه القرى رائحة أيضاً وصلت إلى أنوفنا.

كان الوقت قد شارف على آخر المساء, وها نحن تماماً نحلّق فوق قريتنا الجميلة
يا للمشهد!
وما أصعب وصف اللقاء!

كان قلب ابنتي الصغيرة ينبض بقوّة, وكذلك كان قلبي.
أشرْتُ إلى المئذنة العالية الخضراء, المنتصبة في وسط البلدة, وكأنها منارة, وكان ينطلق منها صوت المؤذّنْ.
قلت لابنتي: أتسمعين?
الصوت يتردّد في الآفاق, مردّداً:

(الله أكبر
الله أكبر
لا إله إلاّ الله
لا إله إلاّ الله
).

وترجع صداه الأودية والجبال المحيطة.
كان منزلنا, إلى جانب المئذنة, ما زال على عهده: نوافذه الزرقاء تنفتح على حديقة صغيرة من الصبّار والتين والزيتون.. وكانت تسمع بين الحين والآخر, أصوات انفجارات قريبة, تأتي من جهة الجنوب.

 


 

محمد علي شمس الدين