في تلك الليلة كان هادي الصغير وحده في المنزل, عندما سمع طرقاً خفيفاً على الباب.
قال هادي: من الطارق?
قال الصوت من الخارج: أرجوك أن تفتح لقد تعبت.
فتح هادي الباب فإذا به أمام رجل بثياب عربية قديمة, فدعاه للدخول والاستراحة.
قال الرجل: لقد قرعت أبواب المدينة كلّها, ولم يفتح لي أحد.
قال هادي: لا شكّ أنك جائع وعطشان, سوف أهيئ الطعام لنتعشّى سويا.
وبعد قليل أحضر هادي العشاء على صينية وعزم الضيف إلى الطاولة.
ثم سأله مستفسراً:
ـ قل لي يا عم, إلى أين انت ذاهب?
ـ لقد اشتقت إلى الأحباب, وأود زيارتهم.
ـ هل لي بمساعدتك? أين هم الآن?
ـ في القدس, ليتك تدلّني على الطريق, فقد تغيّرت كثيراً!
أطرق هادي حزيناً فبادره الضيف قائلاً:
ـ ما بك حزين, لماذا تصمت?
صمت هادي قليلاً, قائلاً في قلبه: يبدو أن هذا الرجل, لا يعرف ان القدس محتلة.
ثم سأل متعجباً:
ـ ولكن من أنت يا عمّ?
ـ أنا صلاح الدين.
ـ من?
ـ أنا صلاح الدين الأيوبي, ألم تسمع بهذا الاسم من قبل?
أجاب هادي مندهشاً:
ـ بلى بلى, يا إلهي من أين جئت? سمعت أختي تقرأ عنك في كتاب التاريخ يوم حرّرت القدس. ولكم تمنيت أن أتعرف عليك!
قال صلاح الدين: هأنا معك هنا, اطلب منّي ما تريد.
قال هادي بلهفة: أودّ التعرفّ عليك أكثر. ـ أنا إنسان عادي, واسمي الكامل (صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب), ولدت في تكريت سنة 1137 التي كان والدي حاكماً عليها.
ـ وكيف نشأت?
ـ على حبّ المعرفة, وركّزت على حفظ القرآن الكريم وقضيت ساعات فراغي في إتقان الفروسية.
ـ وهل أصبحت فارساً?
ـ لو لم أكن فارساً لما اصطحبني عمّي القائد (أسد الدين شيراكوه) إلى مصر, في حملته ضد الصليبيين.
ـ وهل تكلّلت حملتكم بالنصر?
ـ طبعاً, لقد أبليت مع رفاقي بلاء حسناً!
ـ وأين أقمت?
ـ في القاهرة.
ـ وهل أصابك النصر ببعض الغرور?
ـ بالعكس, أكسبني النصر حبّ الشعب وجعل لي عنده منزلة محمودة.
ـ كيف?
ـ اختلطت بجميع الطبقات, وتفقدت أحوال الناس وكنت مساعداً للجميع ومحافظاً على العهود.
ـ وماذا أكسبك حبّ الشعب?
ـ الثقة بالنفس والاطمئنان والمنصب, فاختارني الخليفة الفاطمي وزيراً له, بعد وفاة عمي.
ـ وماذا عملت?
ـ طهّرت الإدارة الحكومية من الفساد ورددت الحقوق إلى أصحابها وخفّضت الضرائب التي كانت ترهق الشعب.
ـ وبعد ذلك?
ـ نظّمت جيشاً قوياً لملاحقة الصليبيين والقضاء عليهم.
ـ وماذا فعلت بعد ذلك الانتصار?
ـ عدت إلى القاهرة ظافراً, وأول عمل قمت به هو محاربة الأميّة.
أُعجب هادي جداً بشخصية صلاح الدين فطلب منه أن يخبره بقصة تحرير القدس ولو بالمختصر.
فأكمل القائد قائلا:
ـ كان ذلك في 20 سبتمبر 1187, حين اقتحمت المدينة لتحريرها من الصليبيين, ولم يكن لدي رغبة في استخدام العنف مع مدينة لها حرمتها عند المسيحيين والمسلمين على السواء, لولا أن زعيمهم (بالبان بن بارزان) رفض الاستسلام, فاضطررت أن أسترد القدس بحدّ السيف.
وهكذا دخلت المدينة في 12 أكتوبر, الذي وافق ليلة المعراج التي أسرى الله فيها ليلاً بنبيّه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
وبعدها دخلت وصلّيت في المسجد وأنا أستشهد بقول الله تعالى: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله ربّ العالمين آية 45 سورة الأنعام.
سأل هادي: وما كان اسم المعركة?
ـ معركة حطين.
ـ وهل صحيح أيها القائد أنك عرفت بلقب ما?
ـ نعم عرفت بلقب (الملك الناصر أبو المظفر صلاح الدنيا والدين يوسف بن أيوب).
ثم أطرق هادي من جديد مفكراً:
الله! يا ليت صلاح الدين يحرّر القدس الآن كما فعل سابقاً.
قال صلاح الدين: ما بك شارد الذهن? بماذا تفكّر?
ـ سيّدي, لا شكّ أنك ستساعدني.
ـ أطلب مني ما تشاء!
ـ حرّر لنا القدس, فبعدك صارت القدس حزينة وسجينة.
ـ ماذا تقول? حبيبتي القدس سجينة?!
ـ لقد احتلّها الصهاينة منذ زمن, وشرّدوا أهلها, أرجوك حرّرها من جديد.
ـ ولماذا لم تحرّروها بأنفسكم?
ـ لقد وعدونا بتحريرها مراراً.
ثم أردف هادي بسرعة: كما عندنا كل أنواع الأسلحة, طائرات ومدافع ودبابات... تعال وانظر صورها عندي.
وجلب هادي كتاباً ليرى صلاح الدين الأسلحة.
فقال القائد:
ـ ما نفع هذه الأسلحة, إذا لم نحرّر فلسطين?
قال هادي: لا تقل لي إنك ستستعيد القدس بحدّ السيف كما فعلت بالسابق?
سكت صلاح الدين ولم يجب.
فأسرع هادي مستفسراً:
ـ ما بك لم تجبني?
ـ سأجيبك يا بني: يؤسفني أنني لا أستطيع مساعدتك!
ـ لماذا? أرجوك يا سيّدي, من يحرّرها إذن?
ـ أنا لم أحرّرها بالسيف, بل بالسواعد التي تمسكه.
ـ أعدك بأنني أساعدك.
ـ عذراً أيها الفتى, أنا لم أنتظر أحداً من جدودي ليساعدني, لقد حرّرتها بنفسي وشعبي.
سكت هادي قليلاً ثم قال:
ـ الآن فهمت قصدك أيها القائد, كما أكسبني حوارك معي شيئاً مهماً!
ـ حقاً! ماذا?
ـ أكسبني حبّ المغامرة, وتولّي زمام الأمور والقضاء على المستبدين.
ثم أردف هادي:
ـ أتعرف أيها القائد العظيم? لاحظت أن الليلة أشبه بالبارحة.
ـ ماذا تعني أيها الفتى?
قال هادي:
ـ أعني أن بلاد العرب للعرب وحدهم, وأن وجود الصهيونيين ظاهرة شاذة كوجود الصليبيين بالأمس.
ثم أكمل بحماسة ظاهرة:
ـ أنا ذاهب الآن لمساعدة إخواني أطفال الحجارة لتحرير فلسطين.
ـ الله معكم.