ملكة بحر البلطيق

ملكة بحر البلطيق

لا أعلم ما اذا كنتم قد دخلتم بيتا من بيوت صيادي السمك على ضفاف بحر البلطيق, أما أنا فإنني لم أر مطلقاً مسكناً مليئاً بالقدر نفسه من الأسرار, والشعر, والدفء. الغرف صغيرة, والجدران المغطاة بالخشب وبلاط الخزف, ويدخل الضوء من خلال نوافذ ضيقة ذات ألواح زجاج صغيرة تطلّ على عرض البحر.

وفي أحد هذه البيوت, وأمام موقد مرتفع مزخرف تطقطق نار جذوع الصنوبر فيه بصوت خافت, استمعتُ إلى بحار عجوز يحكي لي قصة (جوراتا) الجميلة.

و(جوراتا), التي كانت تحكم البحار, كانت تسكن في قصر تحت البحر تتكدس فيه الكنوز. وكان يحيط بها ما لا يحصى ولا يعدّ من الخدم الذين كانوا يسهرون على راحتها وعلى أمن رعاياها. ولكن, ذات يوم, جاء يقصدها سرطان بحري عجوز وقال لها:

(أنت تعلمين أنني, منذ وصلت إلى سن التقاعد وصار أولادي يتكفلون بإعاشتي, اعتدت أن أذهب عصر كل يوم للقيلولة داخل تجويف صخري, قريباً جداً من الساحل. وأنا عجوز, لكنني ما أزال أملك الأُذُن المرهفة, وقد سمعت صيادي السمك يتكلمون عن شبكة جديدة تماماً لا تستطيع أي سمكة أن تنجو منها.

ويبدو أن صياداً شاباً, اسمه (كاستيتيس) وهو مقيم على شاطئ نهر اسفينتوجيا, هو الذي قام بنصب آلة الموت هذه).

الملكة, التي كانت تملك مجموعة رائعة من خيول السباق, استدعت في الحال أسرع ثلاثة وثلاثين من سمك الكراكي وأمرتها بالانطلاق للبحث عن حوريات الماء الثلاث والثلاثين الأكثر جمالاً في العالم.

انطلق فرسان السباق كالسهم, من المحيط الهندي, ومن المحيط الأطلنطي, ومن المحيط الهادي, ومن القطب الشمالي, ومن بحر الشمال, ومن البحر الأبيض المتوسط, ومن بحر الصين وبحر اليابان, وأخيراً, من كل جهات العالم, وصلت حوريات الماء الأكثر شهرة.

وجمعتهن جوراتا في مجلس حول مائدة من المرجان, وأصدرن حكماً بالإجماع بالسجن المؤبد على صياد السمك (كاستيتيس).

وتم إعداد كهف تحت البحر يقضي فيه أيامه دون أن يرى مرة أخرى أبداً أيّ شخص, تحت حراسة أخطبوط عملاق لم يعرف عنه المزاح في الخدمة.

ولم يبق بالتالي إلا القبض على المخترع, وفكّرت الملكة في أنه إذا أخذت الحوريات كلهن يغنّين معها فإنه سيُصاب بسحرهن ويقبل أن يسبح ليلحق بهن.

وتنطلق الجماعة بالتالي وكل هذه الكائنات الحسناوات جالسات على حافة الشاطئ أخذن يغنّين. (كاستيتيس), الذي كان أمام كوخه وكان ينكب على اختراعه, رفع رأسه ورأى الحوريات. وكان عليه أن يقرص ذراعه ليطمئن إلى أنه لا يحلم. إنه لم يشاهد من قبل حفلاً كهذا. كلهن جميلات للغاية, غير أن أكثرهن تألقاً كانت جوراتا, بعينيها الواسعتين الخضراوين وشعرها الذهبي الطويل الذي تتلألأ منه ماسات ضخمة كالنجوم.

عندما انتهى الغناء, نهضت (جوراتا) ببطء وسارت وحدها نحو صياد السمك. ولأنها كانت تعيش دائماً تحت البحر فإنها لم تر مطلقاً صبياً وسيماً مثل (كاستيتيس) لذا اعجبت به وقررت أن تتزوجه. تأملته طويلاً, ثم استدارت نحو رفيقاتها وقالت لهن:

(لا أحد يسجن الجمال, عُدْنَ إلى بيوتكن, وسأبقى هنا, وأنا أتعهد بأن أعيد هذا الرجل إلى صوابه).

لم تجرؤ حوريات الماء على الاعتراض, ولكنهن غيورات قليلاً من الملكة وغاضبات لأمرهن بالانصراف من دون داعٍ, وفي طريق انصرافهن, مررن بالقصر ورَوَيْنَ لوالد (جوراتا) أن ابنته تواطأت مع العدو.

وبطبيعة الحال, فإن الملك الهرم بيركوناس, الذي كان قد نقل سلطاته إلى ابنته لأنه منحها كل ثقته, غضب غضباً شديداً. وصرخ بصوت مرتفع جداً حتى أن كل سكان سواحل بحر البلطيق ظنوا أن عاصفة هوجاء على وشك الهبوب. وجمع الملك شعبه, وأمرهم:

(اذهبوا, واغزوا البرّ. اقبضوا على ابنتي وعلى من أغواها, واقتادوهما ميِّتَيْن أو حيَّيْن).

زحف جيش ضخم من القشريات, والأصداف, والأسماك بقيادة حوت ضخم وتوجَّه إلى مصب نهر اسفنتوجيا. الحوت الذي كان يتقدم الجيش كان كافيا, وحده, لسدّ كل عرض مصب النهر. وأحدث كل هذا اضطراباً لا يوصف, وكان على قوات الجيش أن تتقهقر فيما كان الجنرال يئنّ:

(اجذبوني إلى الوراء, أنا محشور. أسرعوا إلى نجدتي).
كان على سرطانات البحر أن تقضم الضفتين لتخليص قائدها, وأرجوكم أن تتخيلوا الجهد الذي لم يكن صغيراً.

عندما عرف (بيركوناس) ما حدث صار لونه بنفجسياً من الغضب.

(أنت جعلتني موضعاً للسخرية ـ صرخ مخاطباً قائد جيوشه ـ من المؤسف أنه ليس عندي سجن كبير بما يكفي لوضعك فيه, وإلا فإنك كنت ستقضي حياتك في زنزانة. اغرب عن وجهي! لا أريد أن أراك مرة أخرى في بحر البلطيق).

رحل الجنرال, وهدأ الملك وانتهى إلى الإقرار بأنه كان أيضاً مسئولا إلى حد ما عما حدث. لا أحد يرسل السمك للهجوم على برّ.

(هذا صحيح, سأستخدم وسائل كبرى).
وأطلق على بحر البلطيق عاصفة لم ير أحد مثلها أبداً. هدمت العاصفة قصر (جوراتا), غير أن هذا كان لا أهمية له, لأن الملكة الشابة لم تكن لديها أيّ رغبة في ترك (كاستيتيس). كانت قد أدركت أن الحياة في كوخ متواضع لصياد سمك في صحبة الكائن الذي تحبه أفضل كثيراً من أغنى حياة . وباختصار, كانت قد اكتشفت أن الغنى الحقيقي ليس في المجد ولا في القوة, ولا في الثروة, لكن حقاً في بهجة الحب.

واأسفاهَ كانت كراهية أبيها أقوى من كل شيء. لأن الكوخ أيضاً جرفه الموج الهائج, ومات العاشقان تحت الأنقاض مثل آلاف الأبرياء الذين لا شك في أنهم لم يستحقوا أبداً غضب ملك المحيطات.

 


 

خليـــل كلفت