قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

أبو يوسف الكندي عالِم اللعب

(الفلسفة هي محبة الحكمة, والكيمياء هي المعنى الظاهر للحكمة).

هكذا ردد الفيلسوف, وعالم الكيمياء العربي الشهير (أبو يوسف الكندي), المولود عام 186 هجري.

ذات يوم من عام 196 هجري (عام 811 ميلادي), وقف الصبي الصغير أمام حفنة من التراب, وسمع أستاذه (أبو البراجيل) يقول له, وهو يشير إلى سبيكة فخمة من الذهب:

- هل رأيت هذه السبيكة... هل تقدر كم هي ثمينة?

هز الصغير, الذي بلغ العاشرة من العمر رأسه, وقال: إنها من الذهب, ولا يوجد شيء أغلى من الذهب, ولا يساويه في الثمن.

قال الرجل العجوز: هذه الحفنة من التراب تساوي وزنها ذهباً, لأن علماء الكيمياء يمكنهم أن يحوّلوها بمعادلاتهم إلى قطعة من الذهب.

الأمر بالغ السهولة, فالكيمياء هو علم التحويل بين العناصر, والتراب عنصر, والذهب أيضاً عنصر, إذن فلماذا لا ينضم الصغير إلى العلماء الباحثين عن الذهب?

إنه أبو يوسف يعقوب بن اسحاق, المعروف باسم (أبو يوسف الكندي), كان أستاذه قد لقّنه درساَ بالغ الأهمية, وهو أن الكيمياء علم, ولعب.

لذا قال:
- ما أحلى اللعب مع الكيمياء.
وقرر الصبي الصغير أن يحول اللعبة إلى عملية جادة, دون أن يفقد بهجتها, فلماذا لا يدرس الصيدلة, التي أدت به إلى أن يعرف الكثير عن الطب.

وتذكر كلمات أستاذه يوماً وهو يخطو عتبات الشباب: الفلسفة أساس كل المعارف والعلوم, فقال لنفسه:

- سوف أكون فيلسوفا على طريقتي, لن أسير فقط في ركاب من سبقونا.

وساقته الفلسفة إلى بحار العلم الواسعة, وانتهج أسلوباً إسلاميا في السير وراء المعلومة الغامضة, وراح يترجم كتب الفلاسفة الأقدمين إلى اللغة العربية, فأدخل بذلك بابا جديدا في معرفة العرب للعلوم, ألا وهو باب الترجمة عن اللغات الأخرى التي برع أبناؤها في العلوم, خاصة اليونان, وروما.

وقرر, وهو الشاب الصغير, أن يعتكف على البحث, والمعرفة, كان قد استوعب الكثير من الكتب, والمراجع في شتى الأفرع, وقال أحد الباحثين الذين عاصروه: من أين يأتي أبو يوسف الكندي بكل هذا الوقت, ليقرأ ويكتب?

وجاءت الإجابة على لسان الشاب, بعد صلاة المغرب, وهو يجلس إلى أحد زملائه:

- اليوم يزدحم بعدد كبير من الساعات, المهم كيف يقضي المرء وقته بين هذه الساعات, هل تضيع منه بلا فائدة, أم يستفيد منها?

لم ينس أبداً ما علمه له أستاذه (أبو البراجيل), بوجوب البحث عن الذهب, فأفرغ وقته لجلب أنواع عديدة من الحجارة, من الجبال, والصحراء, وأوصى أصحابه من الذين عرفوا بشغف السفر, أن يأتوا له معهم بالمزيد من الحجارة الغريبة, من أجل دراستها, وسأله أحد الأصدقاء:

- لماذا الحجارة, الناس تطلب الملابس, والأحجار الكريمة, والعطور من القادمين من السفر, وأنت تطلب الحجارة?
وجاء الجواب في عدد الكتب الكبير التي قام (الكندي) بتأليفها عن علم الأرض المعروف الآن باسم (الجيولوجيا).

من هذه الكتب: (أنواع الحجارة الثمينة), ثم (كتاب في أنواع الحجارة) و (كتاب فيما يصبغ فيعطي لونا), و (كتاب في أنواع السيوف والحديد), وكتب أخرى كثيرة, كانت بمنزلة أول المراجع عن علم أسسه الكندي أول مرة, وسار العلماء في العالم من بعده على نهجه.

كما ألف (الكندي) كتباً عديدة في علم الرياضيات إلى جانب الكتب الأخرى, ومنها: (رسالة في الحساب الهندسي), و (كتاب في تأليف الأعداد), و (كتاب في الكمية المضيفة), و (كتاب في الحيل العددية).

وفي الكتاب الأخير في الرياضيات, كشف العالم العربي (أبو يوسف الكندي) أنه لم يغير أسلوبه منذ طفولته: لماذا لا نلعب مع العلم?

كان يلعب مع الأرقام ويكشف غموضها, كما بدأ اللعب مع المخاليط الكيميائية, وأثار دهشة الناس, لدرجة أن أحد الخصوم الذين تفوق عليهم قال:

- إنه حاو.
ورد عليه قائلاً: ليس في العلم حواة بل حقائق.
ويومها اصطحبه إلى معمله, وعرض عليه كتبه في الكيمياء, وقال:

- هذا كتابي في الأبخرة, هذا كتابي في كيفية إسهال الأدوية, وهذا كتاب ثالث لي في تغيير الأطعمة.

وراح يعدد له أسماء العشرات من المؤلفات في الطب, والصيدلة, والدواء, وأحسّ الرجل بالحرج, وخرج من المعمل معتذراً, ثم عاد بعد ساعة, وقد أصابه الخوف والهلع, وقال باكياً:

أيها العالم الجليل, لقد عض كلب مسعور ابني, وقد رأيت من بين كتبك ما هو عنوانه: (كتاب في عضة الكلب), وأمه شديدة الهلع عليه?

أسرع العالم مع الرجل وراح يمتص العضة مثلما يفعل عندما يعض ثعبان شخصاً ما.

وراحت الأسرة ترقب ما يفعله أبو يوسف الكندي بمهارة, ونام الصغير مرتاحا, بعد أن سقاه الدواء الذي أحضره معه, وقبل أن يغادر المنزل قال: سوف يقضي الجميع ليلة هادئة.
وفي صباح اليوم بعد التالي, دخل الصبي, وأبوه إلى معمل الكندي وبدا الطفل سليماً, تشع القوة من عينيه, وهو ينطق بعبارات الشكر, بينما قال الأب:

- معذرة لأنني تصورتك حاويا, أنت عالم لك مقدارك, وتميّزك, هل لي أن أطلب منك أن تضم ابني إلى تلاميذك الصغار?

وللمرة الأولى شعر (أبو يوسف الكندي) أنه صار أكبر سناً, وأن عليه أن يعلم تلاميذ جددا.

وقال لتلميذه الجديد الذي كان قبل ساعات مريضاً لديه, أنا أحب جميع المعارف الإنسانية, فهي تتصل فيما بينها, ومده ببعض كتبه, ومنها: (كتاب في جواهر الأجسام), و (كتاب في ماهية الزمان والحين والدهر), و (كتاب في الحشرات), و...
هنا قال الصغير: أنا أحب الحشرات, وأميل إلى اللعب معها, إنها مسلية.

وبرقت عينا الأستاذ الذي رحل عن عالمنا في عام 260 هجري, وقال:

- هل قلت (لعب)?
هزّ الصغير رأسه بالإيجاب, فردد العالم ضاحكاً: من الآن أنت تلميذي المقرّب إلي.

 


 

محمود قاسم