حكاية من اليابان.. النحاس اقدم صديق للانسان

حكاية من اليابان.. النحاس اقدم صديق للانسان

منذ آلاف السنين, بدأ التعارف بين الإنسان الأول والنحاس بمصادفة بحتة, ففي أحد أيام الشتاء, كان (بيدو) عائداً متعباً بعد يوم فاشل لم يصد فيه أي شيء, كل الحيوانات التي ضربها برمحه الخشبي استطاعت أن تفلت منه وأن تعدو مسرعة دون أن يصيبها شيء, بل نظرت إليه في سخرية أيضاً, وكان يعرف أن الثمار التي جمعتها زوجته وخبأتها في الكهف قليلة لن تستطيع أن تقاوم هذا الشتاء الطويل, أخذ يسأل نفسه في حيرة:


- ماذا أفعل لو فشلت في الصيد غداً وبعد غد?
قبل أن يصل إلى الكهف توقف قليلاً, رأى صخوراً غريبة اللون, زرقاء ومائلة قليلاً إلى الخضرة, كان لونها جميلاً, وفكر بيدوأنه يمكن أن يأخذ منها بعض الأحجار ليقدمها لزوجته حتى تتلهى عنه قليلاً ولا تلومه لقلة صيده, وربما أيضاً يستطيع أن يستخدمها للتسلية والرسم على جدران الكهف في ليالي الشتاء الطويلة.


حمل بيدو كتلة الصخر الأزرق وسار بها إلى الكهف, كانت زوجته قد أشعلت ناراً صغيرة وجلست في انتظاره, وحين رأت ما يحمله نهضت في فرح, حسبت أنه قد استطاع أخيراً أن يصطاد حيواناً أخضر اللون, ولكن حين لمسته وأدركت أنه قطعة من الصخر ظهر الامتعاض على وجهها, وقال لها متحبباً:


- هذه هديتي إليك.
ولم تقل له سوى كلمة واحدة: يعني فشلت.


وضع قطعة الصخر وجلسا صامتين بجانب النار, ولكن حدث شيء غريب, بدأت النار تشب في الصخرة الزرقاء, تحوّل لونها ببطء إلى لون خليط من الحمرة والصفرة, وكذلك أخذ شكلها يتغير, كأن حياة جديدة قد دبّت في هذه الصخرة, حدق الاثنان مذهولين, ومد الرجل يده وتناول عصاه وأخذ يقلب بها الصخرة المحترقة, وكلما لكزها تبدل شكلها, لقد تحوّلت إلى عجينة ساخنة طائعة غريبة اللون ولكن لم يجرؤ أحد على أن يلمسها.


في الصباح, كانت النار خامدة, وقطعة الصخر سوداء وباردة, وحين أمسكها بيدو اكتشف أنها قد تحوّلت إلى قطعة مدببة وصلبة, أكثر صلابة من الخشب والصخر, مرّ بها على جدران الكهف, فأحدثت في الصخر علامة واضحة, تساءل بيدو: (هل يمكن أن تساعدني في صيد الحيوانات التي تهرب مني?) تناول قطعة المعدن وربطها في طرف عصاه, وعندما خرج إلى الغابة صوبها لأول حيوان صادفه, وكانت المفاجأة, أن الحيوان خرّ جريحاً على الفور, اكتشف بيدو أنه قد أصبح قوياً, وأن هذا السلاح سوف يجعله قادراً على التغلب حتى على الحيوانات التي تتفوق عليه في الحجم, كما بدأ أيضاً يكتشف في هذا المعدن أشياء أخرى, فهو لا يتشقق عندما يدق عليه بأي آلة حادة, وهو يأخذ أي شكل يريده سواء كان ساخناً أو بارداً, كما أنه لا يصدأ, ولا يتغبر لونه في الهواء الرطب, ويمكن أن يتم صهره في قضبان غليظة, ويمكن أن يتحول إلى خيوط رفيعة أدق من شعرة الرأس, لقد بدأ الإنسان بهذا الاكتشاف مرحلة جديدة من حياته.


من الصيد للزراعة

هذا هو معدن النحاس أقدم صديق للإنسان, فقد بدأ التعارف بينهما منذ حوالي 8 الاف عام تقريبا, أي قبل أن تقوم الحضارات وتنشأ المدن, بل يمكن القول إنه هو الذي ساعد الإنسان على النزول من الكهوف العالية التي كان يسكن بها إلى السهول الواسعة حيث مارس الزراعة وأقام القرى وصنع من النحاس الفئوس والمعاول وأدوات النجارة والبناء.


إنه ذلك المعدن المتألق ذو اللون البرتقالي المائل إلى الحمرة الذي نراه في كل مكان, الذي يأخذ ألواناً مختلفة عندما يتم خلطه بالمعادن الأخرى. ويوجد النحاس في كل مكان داخل بيوتنا, في الأقفال والأنابيب وقطع الأثاث, والمصابيح وصناديق البريد والقدور والأواني والمجوهرات, ومعروف أن الذهب هو معدن ليّن جداً ولا يكتسب الصلابة واللون إلا عندما يضاف النحاس عليه.


والنحاس هو أفضل موصل للكهرباء, وتحمل أسلاك النحاس هذه التيارات إلى البيوت والمصانع والمكاتب, وكذلك تستخدم هذه الأسلاك في الهواتف وأجهزة التلفزيون والكمبيوتر والسيارات والمولدات وأي أنواع أخرى من الأجهزة الكهربائية.


وفي عالمنا اليوم, يوجد النحاس في سلسلة من الجبال تمتد شمالا من (ألاسكا) حتى أمريكا الجنوبية, ويستخرج العمال خام الفحم من مناجم عميقة تحت الأرض, أو من حفر واسعة, وشيلي هي أكبر بلد منتج للنحاس في العالم, وتأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثانية, وكندا في المرتبة الثالثة, أما في قارة إفريقيا فإن الكونغو هي الدولة الأولى, وتحتل الفلبين المركز نفسه في قارة آسيا.


سلاح جديد


عندما هاجم الهكسوس مصر في الزمن القديم وجد المصريون فجأة أن أسلحتهم أضعف بكثير من أسلحة تلك القبائل البدائية القادمة من الشمال, لقد تكسّرت سيوف المصريين ورماحهم والدروع التي كانوا يحمون أنفسهم بها, وتمكن الهكسوس من احتلال مصر لسنوات طويلة, وطوال هذه الفترة والمصريون يسألون أنفسهم عن السبب في ذلك, لقد اكتشفوا أن أسلحتهم المصنوعة من النحاس لم تعد تصلح, كان لابد من تقويتها, ولكن كيف? أخذوا يضيفون للنحاس مواد مختلفة بنسب مختلفة أيضاً, حتى توصلوا إلى صنع سبيكة من النحاس والقصدير معاً, ثم أضافوا إليها بعضاً من الفسفور والحديد, وهكذا توصلوا إلى سبيكة البرونز الصلبة والقوية, وهي في الوقت نفسه خفيفة الوزن كان هذا هو السلاح الجديد الذي يبحث عنه المصريون, بل وطوّروا العجلة الحربية التي كانت مصنوعة من الخشب بأن أحاطوها بصفائح من البرونز, وهكذا استطاعوا أن يهاجموا الهكسوس وأن يهزموهم ويطردوهم خارج مصر.

فنون من البرونز


وقد أطلق المؤرخون على هذا العصر عصر البرونز لأنه يمثّل تطوّراً مهماً في تاريخ صداقة الإنسان مع النحاس, فقد استطاع أن يتحكم في كميات القصدير التي يضيفها بحيث يصنع سبيكة صلبة لصنع الأسلحة أو يجعلها ألين قليلاً ليصنع منها التماثيل التي يريد تشكيلها, ومعظم سبائك البرونز غير قابلة للصدأ, لذا فإن التماثيل والأجراس الضخمة المصنوعة منها تعيش طويلاً, وقد وصلت إلينا تماثيل يعود عمرها إلى آلاف السنين, وكذلك الأوعية والأباريق التي تعود إلى حضارات اندثرت.


وفي عالمنا العربي, وخاصة في وادي الأردن يوجد واحد من أقدم مناجم النحاس في العالم على الإطلاق, إذ يعود تاريخه إلى أكثر من 6 آلاف سنة, وقد اكتشف في كهف بالقرب من البحر الميت آثار يعود تاريخها إلى عصر البرونز, هو كهف المحارب المجهول الذي اكتشف عام 1993, وأهم ما فيه هو تلك الخوذة البرونزية التي كان يرتديها هذا المحارب, والسلاح الذي كان يحارب به أعداءه.


لا يوجد شيء من عالمنا المعاصر لا يكون النحاس طرفاً فيه, وحتى أنت يا صديقي الصغير تحمل في حياتك كل يوم أشكالاً كثيرة من النحاس, فهناك الساعة التي ترتديها, والنظارة التي تساعدك على القراءة, والمفتاح الذي تدخل به بيتك وهو أيضاً جزء من الملابس التي ترتديها, فالنحاس يوجد في الأحزمة والأزرار, إنه صديق قديم جداً ولا غنى عنه أبداً.

 


 

محمد سيف