الثمن

الثمن

رسوم: علي دسوقي


يدور عتريس بالبلدوزر, يرفع التراب بحافته, يسير به, يرميه بعيداً عن مكان العمل, وعليه أن يعود ثانية ليحمل أكواماً أخرى, لكنه لا يعود. يخرج من كابينة القيادة, يختار مكاناً هادئاً. وتحت ظل شجرة يتمدد, يغلق عينيه اتقاء للضوء الباهر الذي يقابله, وينام.


أرض المصنع الذي يعمل به كبيرة, في حاجة لبناء مخازن في أرض مليئة بالبوص وأكوام التراب المتراكمة من سنوات طوال.


لكن عتريس يبتعد عن هذا كله. يردد لنفسه:


- في الغد سوف أحمل باقي التراب.


لقد سهر طويلاً بالأمس مع أصدقائه. لذلك لا يستطيع أن يواصل العمل. والبلدوزر يحتاج إلى يقظة وقوة أعصاب. ثم ردد لنفسه مرتاحاً:


- في الشركة بلدوزران آخران يعملان بدلاً مني. فلأنام وارتاح الآن.


هكذا يمر وقته في العمل, ويعود وقد ارتاح تماماً, ونام الساعات الطوال مستعداً لسهرة جديدة مع أصدقائه.


لكنه وجد زوجته تقف حزينة, يعرف هو ما تعانيه دون أن يسألها:


- ماذا حدث?


- الولد سمير مريض.


كان سمير ملقى فوق السرير, وجهه أحمر, وعيناه مغرورقتان بالدموع:


- منذ أن خرجت وهو على هذه الحال.


تحسس جبهة الطفل, وجد الحرارة مرتفعة:


- وماذا تنتظرين? هيا بنا إلى الطبيب.


لفته المرأة بعناية خشية أن يصيبه البرد في الخارج, وأقلتهما سيارة أجرة إلى طبيب فحصه بعناية وكتب له تذكرة علاج محذراً من إهماله. صرف عتريس تذكرة الطبيب, دفع مبلغاً كبيراً من المال, وحمل علب الدواء.


نام متأخراً هذه الليلة أيضاً وعندما ذهب إلى العمل في اليوم التالي كان حزيناً ومهموماً, قال لرئيسه عمّا حدث, ورجاه أن يعفيه من العمل على البلدوزر لأن حالته لن تسمح له بهذا. واستجاب الرجل مضطراً.


نام عتريس بمكانه, تحت شجرته الوارفة الظليلة, وظل هكذا إلى قرب موعد الانصراف.


استعاد الولد سمير عافيته, وبدأ يسير في الشقة كما كان, وعاد عتريس إلى أصدقائه, يسهر لوقت متأخر من الليل دون فائدة, ويعود إلى عمله متعباً. ينقل نقلة من التراب أو نقلتين بالبلدوزر, ويهرب به بعيداً لينام.


وفوجئ بمرض البنت فاطمة, أقلقه مرضها. فلقد شحب وجهها وخف وزنها في ساعات قليلة, حملها مع زوجته وذهبا إلى الطبيب. وتكرر ما حدث مع سمير. تذكرة علاج بمبلغ كبير, جعلته غير قادر على الانفاق على الأسرة لباقي الشهر.


وتكرر نوم عتريس تحت ظل الشجرة, وهروبه من حمل أكوام التراب والرمل, وإصلاح الأرض لإعدادها للبناء, لكن الذي أدهشه, هو تكرار مرض أطفاله بطريقة لم تحدث له من قبل.


زاره والده في بيته, وكان متدينا, يقرأ كتب الدين كثيراً, جاء بعد أن علم أن الولد سمير قد عاوده المرض ثانية, جلس بجوار ولده عتريس بعيداً عن العائلة. قال له:


- لقد تكرر مرض أطفالك بطريقة غير عادية يا عتريس.

- أمر الله يا أبي.


- كله بإذن الله لاشك, لكن لكل شيء سبباً.


وشرد الرجل بعض الوقت. ثم سأل ابنه:


- ماذا تفعل في عملك? قل لي.


حكى عتريس لأبيه عمّا يحدث.

- إنني لا أتعب في العمل, لا أحد يسأل. ابتعد بالبلدوزر الذي أعمل عليه وأنام. أو أزور بعض الزملاء في مكان بعيد عن عملي. وأقضي الوقت معهم حتى موعد الانصراف.


زام الرجل ثم قال:


- هنا المشكلة.


- ماذا تقصد يا أبي?


- إنك تأخذ مالا لا تتعب فيه. لهذا يذهب دون شيء.


- لكنني....


- أخلص لعلمك? يكرمك الله في ذريتك.


فكر عتريس طويلاً في حديث والده, إنه لا يعمل سوى ساعة أو ساعتين على الأكثر ويقبض راتبه بالكامل. أجل. هذه هي المشكلة. لكن أطفالي الأبرياء ما ذنبهم فيما يحدث.


تأخر في النوم هذه الليلة أيضاً من شدة التفكير.


في اليوم التالي, ركب البلدوزر متحمساً, حمل أكوام التراب وعاد مسرعاً, واجهته شجرته الظليلة لكنه لم يسأل عنها, حمل أكواماً أخرى وأخرى, ووقف أمام الرجال العاملين في الأرض وسألهم:


- أي خدمة يا رجال. إنني تحت أمركم.


ظل عتريس يعمل طوال اليوم, كان سعيداً, وجسده صحيحاً, لم يحس برغبة في النوم أو في التكاسل, وظل هكذا لعدة أيام, أصبحت هذه طريقته في العمل, يعرض - هو - خدماته على العاملين.


ولاحظ أن الأمراض ابتعدت عن أطفاله, لم يعد ينفق مليماً واحداً على زجاجة دواء.


لم يحك لزوجتــــه عمّا حـــدث بينـه وبين والده, وربما أحست المرأة بأن أطفالهــــا أصبحـوا أصحّاء هذه الأيام, لكنهـا لم تحس بالتغيير الذي حدث لزوجها.

 


 

مصطفى نصر