هيدي

هيدي

ترجمة : حسن صبري
رسوم: أبو طالب

ذات يوم صيفي جميل, كانت هيدي تصعد مع خالتها ديت طريقا منحدرا, فوق جبل الآلم, في سويسرا, إلى أن وصلتا لكوخ صغير, رأت هيدي أمامه جدها لأول مرة, وأخبرته الخالة ديت أنها ستسافر للعمل في فرانكفورت بألمانيا, ولن تستطيع أخذ الصغيرة معها إلى هناك.


كانت هيدي في الخامسة من عمرها, حين تركتها الخالة ديت في رعاية جدها, وبدأت هذه البنت الجميلة, يتيمة الأبوين, حياة جديدة, تمتلئ بالجمال والخيال والبهجة. كانت تستيقظ كل صباح على صفير الصبي الصغير بيتر, راعي المعز, فتخرج مسرعة, وترى بيتر مع قطيع من ماعز أهل قرية دورفلي القريبة. يحضر له الجد ماعزتيه من الحظيرة خلف الكوخ, ويعطيه غداء هيدي من الجبن والخبز, ويوصيه أن يسقيها لبن إحدى الماعزتين. ويمضي بيتر وهيدي بالمعز, وتشاهد هيدي في فرحة, الأزهار الزرقاء والصفراء, وهما يصعدان إلى المرعى المرتفع فوق الجبل. وهناك تجلس هيدي في الشمس الدافئة, تستنشق النسيم الرقيق المعطر بعبير الزهور, وتأكل مع بيتر, ويحلب لها الماعزة, وتشرب من لبنها الشهي, وتتابع المعز وهي تأكل من نباتات الجبل اللذيذة, تداعبها, وتناديها بأسمائها, وتحنو عليها. وعندما يحين الغروب, ترنو هيدي للشمس, وهي تهبط خلف المرتفعات, فتتألق بلون ذهبي ساحر, ثم تتوهج بلون زهر القرنفل, فتظن أن الجبال والسماء تشتعل بالنار. وترجع هيدي في المساء, وتعيد مع جدها الماعزتين للحظيرة, ويتناولان العشاء معاِ, وتحكي له عن المناظر المدهشة التي شاهدتها فوق الجبل, حتى يحين موعد النوم, فتصعد السلم إلى مخزن الدريس, بالطابق العلوي للكوخ, حيث يحلو لها أن تنام, وتفترش كومة كبيرة من الدريس, وتغفو على حفيف أشجار الأرز الثلاث العتيقة وراء الكوخ.


يأتي الشتاء, وتغطي الثلوج جبل الآلم كله, ويتوقف بيتر عن رعي المعز, ويذهب للمدرسة في دورفلي, ويحزن لأنه لن يرى هيدي غير مرات قليلة أثناء الشتاء, وتفتقده هيدي, وتنتظر في شوق قدوم الصيف, لتذهب معه للرعي, وتمرح مع الماعز فوق الجبل.


هكذا مضت حياة هيدي, سعيدة هانئة, حتى صار عمرها ثمانية أعوام. وذات يوم حضرت الخالة ديت إلى الجد, وأخبرته أنها ستأخذ هيدي إلى فرانكفورت, لتعيش في منزل رجل ثري, يدعى الهر سيسمان, له ابنة وحيدة, اسمها كلارا, في الثانية عشرة من عمرها, هزيلة, عاجزة, تقضي حياتها فوق كرسي متحرك, وتعتني بها سيدة اسمها فرولين روتنمير, لانشغال والدها بأعماله الكثيرة في باريس, وتشكو كلارا من الملل,ولذلك, يريد أبوها طفلة تؤنسها, وتكون صديقة لها.


لم يكن الجد راضياً عن ذهاب حفيدته لتلك المدينة البعيدة, لكنه لم يمنع خالتها من أخذها, بعد أن قالت له إن هيدي ستقوم بعمل نبيل, كما ستجد هناك معيشة أفضل, وكثيراً من الخدم يعتنون بها, وستتعلم مع كلارا القراءة والكتابة. ومضت هيدي مع خالتها, وهي حزينة لفراق جدها, وسافرت بالقطار إلى فرانكفورت.

وصلت هيدي لمنزل الهر سيسمان بعد يومين, واصطحبها كبير الخدم سباستيان لحجرة المكتب, حيث كانت كلارا على كرسيها المتحرك, تنتظر في اشتياق صديقتها الجديدة, واستقبلتها في مودة, وسرعان ما صارتا صديقتين حميمتين.
وهكذا بدأت هيدي حياة أخرى جديدة, في ذلك المنزل الفخم, تختلف عن حياتها في كوخ الجد, ووجدت منذ اليوم الأول لحضورها معاملة قاسية من فرولين روتنمير, التي فرضت عليها نظاماً صارماً في الحديث, والتعامل مع خدم المنزل, وتناول الطعام, لم تألفه هيدي في حياتها الطليقة فوق الجبال. وكانت تشعر بالضيق عند حضور المدرس للمنزل, وتتوهم أنها لن تستطيع أن تقرأ أو تكتب في يوم من الأيام. وأحسّت مع مرور الوقت أنها سجينة في ذلك المنزل الكبير, المليء بالخدم, وكل أسباب السعادة. وبدأت تشعر بالحنين الشديد للوطن, وتحكي لكلارا عن حياتها السعيدة مع جدها فوق جبل الآلم.


وذات يوم حضرت للمنزل جدة كلارا, وكانت سيدة بسيطة, طيبة القلب, أحبت هيدي, وعاملتها بعطف شديد, وكانت تشجعها على التعلم, فأقبلت هيدي على دروسها, وأجادت القراءة, وكافأتها الجدة بكتاب جميل, كانت هيدي قد أعجبت به من قبل, ووعدتها أن تهديه إليها عندما تتمكن من القراءة.


وعلى الرغم من أن وجود جدة كلارا, خفف من شعور هيدي بالتعاسة, إلا أنها ظلت تفكر في جدها وبيتر والمعز والجبال, وكلما نامت حلمت بالأزهار والأشجار فوق جبل الآلم, والثلوج التي تكسو قممه في الشتاء. وكانت تصحو لتجد نفسها في سريرها الكبير المريح في فرانكفورت, فتتذكر فراشها القديم فوق أكوام الدريس بكوخ جدها, وتبكي, وهي تضع وجهها في الوسادة, لكي لا يسمعها أحد.


كانت هيدي تخاف أن تبوح بما في نفسها لكلارا أو جدتها أو أحد من الخدم, فيقال إنها ناكرة للجميل, كما وصفتها فرولين روتنمير ذات مرة, عندما أخبرتها هيدي برغبتها في العودة للوطن.


ومع مرور الأيام فقدت هيدي شهيتها للطعام, وشحب وجهها, وضعف جسمها, وعاد الهر سيسمان من باريس, فوجدها في حالة سيئة, وأخبره صديقه الدكتور كلاسن بأن علاج هيدي الوحيد, هو عودتها لسويسرا. وافق الهر سيسمان, وفرحت هيدي بالعودة, وودعت كلارا, ووعدها الهر سيسمان بأن يسمح لابنته بزيارتها الصيف القادم, وأرسلها مع سباستيان لجبل الآلم.


عادت هيدي لجدها وحياتها البهيجة, واستعادت صحتها بسرعة, وألحقها الجد بمدرسة دورفلي, واستأجر هناك بيتا صغيراً, يقيمان فيه طوال فصل الشتاء.


جاء الصيف, ووفى الهر سيسمان بوعده, فأتت كلارا بصحبة جدتها لزيارة هيدي, واقترح الجد أن تبقى كلارا عنده بعض الوقت, فوافقت جدتها, لأنها رأت أن وجود حفيدتها في ذلك المكان الرائع, سيجعلها في حالة طيبة, وسافرت في اليوم نفسه, على أن تعود لكلارا بعد ذلك. وأمضت كلارا أوقاتاً سعيدة مع هيدي, وشاهدت المناظر الجميلة فوق الجبل, وسعدت بالنوم بجوارها في مخزن الدريس. وشعر بيتر بالغيرة من كلارا, لأنها شغلت عنه هيدي, فلم تعد تخرج معه للمرعى.


واهتم الجد بكلارا, فكان يطعمها الجبن, ويسقيها لبن الماعزة الطازج, وطلب منها ذات صباح, أن تقوم من فوق الكرسي المتحرك, وتجرب الوقوف على قدميها.


وبمجرد أن وضعت قدميها على الأرض, صرخت من الألم وخافت. وفي اليوم التالي شجعها الجد على تكرار المحاولة, ففعلت, وأحست بألم أقل من المرة الأولى, وما زال الجد يشجعها على النهوض من فوق الكرسي دون مساعدة, حتى استطاعت أن تقف لفترة قصيرة, ويوماً بعد يوم تمكنت كلارا من الوقوف, وبدأت تحاول السير على قدميها.


وذات صباح حضر بيتر لأخذ ماعزتي الجد, ووقعت عيناه على الكرسي المتحرك أمام الكوخ, فامتلأ بالغيظ, ودفع الكرسي بكل قوته نحو حافة الجبل, فهوى من ارتفاع شاهق, وتحطم لقطع صغيرة على صخور السفح.


ومرّت الأيام, ورجعت جدة كلارا, ودهشت عندما رأت حفيدتها مشرقة الوجه, وفرحت كثيراً عندما فوجئت بها تمشي على قدميها, وشكرت الجد, فقال لها: اشكري الله, وهذه الشمس الساطعة, وهواء الجبل النقي, ولبن الماعزة الطازج.


حضر الهر سيسمان, وكاد ألا يصدق عينيه عندما شاهد كلارا تسير مع هيدي, وصاح في فرحة: لقد تغيرت حقا يا كلارا! إنها معجزة!


لمحت الجدة بيتر مختبئاً خلف الأشجار, فشكت في أمره, واستدعته,وسألته عن سر خوفه, فاعترف لها في ندم شديد أنه حطم كرسي كلارا, لأنه كان يغار منها, واعتذر إليها, فسامحته.


حان وقت السفر, ووعد الهر سيسمان هيدي بأن تأتي كلارا لزيارتها في صيف كل عام. وودعت هيدي وجدها, كلارا ووالدها وجدتها, حتى غابوا عن الأنظار.


غربت الشمس, ولمعت الجبال ببريق ذهبي جميل, وأمسك الجد بيد هيدي, وصعدا معاً الطريق المنحدر, عائدين للكوخ, فوق جبل الآلم.

 

 


 

جوهانا سبيري