كان الحشد غفيراً, يرقبون بأعينهم الآثار التي مضى عليها آلاف السنين في قاع البحر, وهي تخرج من تحت مياه البحر المتوسط, لتزيح الستار عن فصل جديد من فصول الحضارة الفرعونية التي لا تنتهي. وكنت أنا وابني ذو الثلاثة عشر ربيعاً, نرقب بشغف ولهفة بالغة الغواصين وهم يلقون بأنفسهم واحداً تلو الآخر في مياه المتوسط الزرقاء ويتابع تحرّكاتهم فريق آخر, على ظهر سفينة, مزودة بمعدات ضخمة لانتشال الآثار الغارقة. ولم يدم انتظارنا طويلاً حتى تعالت صيحات المحتشدين على الشاطئ وهتافاتهم وهم ينظرون إلى الرافعة وهي تحمل لوحة رائعة من الجرانيت الأسود عرضها حوالي 80 سم ومدون عليها 14 سطراً عمودياً بالكتابة الهيروغليفية وعلى الفور سألني ابني:
- ماما ما هذه اللوحة الكبيرة, إنها تبدو ثقيلة للغاية, كيف استطاعوا رفعها من قاع البحر.. وما هذا المنقوش عليها?
فأجبته: هذه اللوحة ترجع إلى مدينة هيراكليون القديمة, ومدينة هيراكليون هذه كانت تقف شامخة على ضفاف نهر النيل, حيث كانت في ذلك الوقت من أهم موانئ مصر القديمة, قبل بناء الاسكندرية بحوالي 331 سنة.
كانوا يرفعون الآثار من الماء بواسطة رافعة خاصة كما ترى, أما صاحب هذه اللوحة فهو الفرعون (تختنبو) أما المنقوش عليها فهو كتابة توضح النظام الجمركي في مصر القديمة.
معاملات قديمة
وهنا قاطعني ابني الذي كان ينصت باهتمام شديد قائلاً: ماذا تعني كلمة النظام الجمركي?
يا عزيزي عند قيام أي نشاط تجاري من تصدير أو استيراد سلع, لابد أن تحكمه مجموعة من القوانين لضمان أن تتم المعاملات التجارية في جو آمن. وما كدت أنتهي من حديثي هذا حتى استطاع فريق البحث انتشال خمسة تماثيل متشابهة لأبي الهول, وهنا هتف ابني محمد: ماما إني أعرف هذه التماثيل, إنها تشبه تمثال أبي الهول القابع بين الأهرامات الثلاثة في منطقة الجيزة بالقاهرة, إنه تمثال على شكل إنسان وجسده على هيئة أسد وهو يوحي بقوة الفراعنة أليس كذلك? ولكن أين ذهب رأس التمثال الخامس?
نعم يا محمد أنت على حق فيما تقول وبخصوص التمثال الخامس, فكما تعرف تتعرض بعض الآثار لعوامل جوية كثيرة, قد تتآكل أجزاء منها من جراء هذه التغييرات, أو ممكن تكون قد انفصلت عن الأثر ولاتزال تحت المياه, ولاتنس يا محمد أن هذه الآثار مكثت تحت المياه آلاف السنوات.
وما هي إلا ساعات وقد افترشت تماثيل عديدة الشاطئ منها تمثال (حابي) إله النيل في مصر القديمة وثلاثة تماثيل من الجرانيت الوردي, غاية في الروعة والفخامة, بدأنا نتفقدها, وهنا لم يستطع محمد معي صبراً, فسألني: لمن تكون هذه التماثيل? هذه التماثيل أحدها لملك لم يتم التعرف عليه بعد, وهو كما ترى يضع على رأسه تاجا ويصل طول التمثال إلى 5,5 متر, أما التمثال الآخر فهو لملكة فرعونية ذات تسريحة شعر جميلة, وطول التمثال 4,5 متر. قال لي ابني:
أمي وماذا بخصوص هذه العملات الذهبية هل أستطيع الشراء بها الآن?
أجبته: لا يا محمد, فهذه العملات الذهبية نادرة وترجع إلى عصر الاسكندر الأكبر, فكما ترى يوجد على هذه العملات رسم للإسكندر الأكبر وهو راكب عربة حربية تجرّها الأفيال, ومثل هذه العملات تساعدنا في فهم كيفية التعامل النقدي في ذلك الوقت, ومن ثم لا نستطيع الشراء بها لأنها أصبحت أثراً مهماً يجب علينا الاحتفاظ به لأنه جزء من التاريخ.
نهاية مدينة
وبعد ذلك تفقدنا تمثالاً صغيراً من البازلت الأسود, يصل ارتفاعه إلى نحو 60 سم للصقر حورس, وناموسا ضخماً لإقامة الإله هرقل الذي كان يعبد في مدينة هيراكليون, هذا وتعد لوحة الجرانيت الوردية التي تحمل عدة خراطيش لبطليموس وكليوباترا والملك أحمس من أروع ما انتشلته البعثة من تحت المياه, وسألني محمد مجدداً: ماما أين ذهبت مدينة هيراكليون الآن? أجبته: لقد تأثرت مدينة هيراكليون بعدة كوارث طبيعية بما فيها الزلازل, الأمر الذي أدى إلى غرق المدينة حتى أضحت أنقاضاً رابضة تحت مياه البحر. وحين التفت إلى محمد وجدته شارد الذهن, فسألته: بماذا تفكر يا محمد? أجابني حائراً: وما فائدة تلك الآثار, هل هي بالغة الأهمية لدرجة أن تنفق الدولة عليها كل هذه النفقات ويأتي فريق أوربي مع فريق البحث المصري للبحث عنها, هل هذا الحدث يهم مصر فقط أم دول أخرى? قلت له: نعم يا صغيري هذه الآثار مهمة جداً لمصر, وبما أن مصر جزء مهم من العالم, فهذه الآثار تهم العالم, وكما ترى فهؤلاء أثريون ومصورون وصحفيون من جميع أنحاء العالم جاءوا إلى الاسكندرية لمتابعة هذا الحدث العالمي, إضافة إلى أن هذه الآثار تشتمل على معلومات عن الفترة ما بين عصر الفراعنة والعصر الإسلامي. وقاطعني محمد: ماذا سيحدث لهذه الآثار بعد ذلك? قلت: ستخضع هذه التماثيل للترميم, وإزالة الأملاح من عليها, وهذه العملية ستستغرق عدة أشهر, وبعد هذا ستقوم بجولة حول العالم وسوف يذهب عائدها المادي لمكتبة الاسكندرية الجديدة.
ومرت الساعات, ونحن نتطلع إلى التاريخ, الخارج من أعماق البحر شاهداً ودليلاً على مدينة كانت يوماً هنا, مزدهرة بالحضارة, والعلم, والمعرفة.
صورة
وزير الثقافة المصري فاروق حسني وهو يتفقد بعض الآثار التي تم انتشالها.