شواطئ الكويت واحدة من أجمل الشواطئ في الخليج, وبحرها غني بالأسماك, ولكنه في الآونة الأخيرة تعرض إلى خسارة هائلة, فقد فوجئ الصيادون وحتى المتنزهون على شاطئ البحر بالآلاف من هذه الأسماك ميتة وملقاة على رمال الشاطئ, وعلى مدى أيام طويلة ظل الموج يجرف المزيد من أطنان السمك الميت, وفي الوقت الذي هرع فيه عشرات المتطوعين من شباب الكويت إلى تنظيف شواطئهم وإنقاذ بيئتهم البحرية من التلوث, كان السؤال الحائر على ألسنة الجميع يبحث عن إجابة, لماذا حدثت هذه الكارثة?
هل زادت نسبة التلوث في الخليج? هل ألقيت بعض السموم عمداً في مياه البحر? هل أثرت تقلبات الطقس وشدّة الحرارة على الأسماك? هل جاء نوع غريب من مد الماء مثل المد الأحمر الذي كان السبب في قتل صغار الأسماك قبل ذلك, أم أن الكارثة تعود لكل هذه الأسباب مجتمعة?
لقد طال الجدل كثيراً وحاولت كل جهة أن تقدم تبريراً, ولكن التقرير الأخير الذي أصدره معهد الأبحاث العلمية بالكويت وهو إحدى الجهات العلمية التي يعتد برأيها أكد أن سبب نفوق الأسماك هو تكوّن نوع من البكتريا الضارة في مياه الخليج في هذا الوقت من العام, وأن وجود هذه البكتريا هو مؤقت لحسن الحظ, وقد ثبت ذلك بالفعل وعادت الأسماك إلى حالتها وإن كانت كميتها وتوالدها قد قلّ إلى حد كبير, ولكن المعهد لم يقدم السبب الرئيسي في نمو هذه البكتريا, ولا ما هو مصدرها, كما لم يقل إن كانت هذه الظاهرة سوف تحدث مرة أخرى أم لا?
السمكة المجهولة
لقد ذكّرتني هذه الحادثة بالضجة التي شهدها العالم حول سمكة (منهادن MENHADEN) التي يعتبرها العلماء والباحثون أهم سمكة في بحار العالم, ورغم أن هذه السمكة لا تقدم في وجبات المطاعم, ولا تطبخ في البيوت, ولا تباع في أسواق السمك إلا أن لها تأثيراً كبيراً على الإنسان والحيوان وعلى البيئة التي تعيش فيها وعلى الأسماك التي تسبح حولها, وهي سمكة صغيرة لونها مائل إلى الزرقة ولها أسنان صغيرة حادة, وهي دهنية وعظامها رقيقة جداً.
وتسير أسماك المنهادن دوماً في جماعات كبيرة, وهي تشق مياه المحيطات مثل حقل من الفضة, أو كما يطلق عليها الصيادين مدرسة المنهادن التي تحتوي على آلاف من الصغار, وعادة ما تكتشف إحدى طائرات الهيلكوبتر وجود هذه المدرسة فترسل إشاراتها إلى سفن الصيد التي سرعان ما تبحر إلى هذه المنطقة, وتنشر شباكها لتصطاد هذه المدرسة بكل فصولها وكل تلاميذها.
ولا يتمثل الخطر على هذه المدرسة من الصيادين فقط, ولكن طيور البحر تجد فيها دائماً مادة شهية وطازجة, وقد قلنا من قبل إن الإنسان لا يأكل هذه الأسماك بطريقة مباشرة, ولكنه يأكلها بصورة غير مباشرة, فهي تجفف وتقدم كغذاء غني بالبروتين للدجاج والأبقار والأغنام, وهكذا نجد أن جزءاً كبيراً مما نأكله مكوّن من أسماك المنهادن, كما أن جزءاً كبيراً من هذا المسحوق يستخدم في صناعة الأسمدة وبذلك تلعب هذه السمكة دوراً في نمو النباتات وتكاثرها, كما أن جزءاً من زيوت هذه الأسماك يدخل في صناعة السمك المعلب, مثل أسماك السردين والتونا والأنشوجة, بل وتتدخل أيضاً في صناعة مساحيق التجميل.
الخطر الكبير
ونظراً لأهمية هذه السمكة, فقد أقيمت من أجل استغلالها عشرات المصانع الضخمة, وجهّزت العديد من السفن التي ترشدها الطائرات لاصطياد أكبر كمية من هذه الأسماك, ولكن هذا الصيد المكثف الذي تعرضت له المنهادن في الآونة الأخيرة قد أحدث تأثيرات كثيرة على البيئة البحرية للمحيط وعلى موائد طعام الإنسان أيضاً.
فالعلماء يعتبرون هذه السمكة بمنزلة الحلقة التي تربط كل مظاهر الحياة على سواحل المحيط, فقد كانت مدارس المنهادن تمتد لأميال فوق سطح الماء, ولكن منذ أن استخدم الصيادون الطائرات في تحديد أماكنها, أخذت هذه الأميال في التناقص, وقد أثر هذا الأمر على أنواع كثيرة من الأسماك التي كانت تتغذى مباشرة عليها مثل سمكة القاروس التي قلت أعدادها هي أيضاً بشكل واضح, كما أن أعداد أسماك أخرى قد تغير شكلها وفقدت وزنها عندما لم تجد الغذاء الذي تعوّدت عليه, وأسماك أخرى أصابها المرض, وبعض الخلجان التي كان يكثر فيها المنهادن أصبحت خالية من معظم الأسماك التي كانت بها بعد أن رحلت تلك السمكة المهمة.
إن الطبيعة تبتكر العديد من الطرق حتى تحافظ على نقاء المياه الموجودة في بعض الخلجان شبه المغلقة, لذلك فإن هناك العديد من المخلوقات التي تحافظ على المياه نظيفة ومتوازنة وصحية, وإحدى المهام الرئيسية لسمكة المنهادن هو التغذية على كل أنواع النباتات العالقة فوق سطح الماء, كما يقوم نوع آخر هو المحار بالتخلص من النباتات العالقة في جوف البحر, ويشبه بعض العلماء سمكة المنهادن بالنسبة لمياه الحيط بعضو الكبد بالنسبة لجسم الإنسان حيث يقوم بتخليصه من السموم والعناصر الضارة, أي أن هذه السمكة هي كبد المحيط, وعندما تختفي فإن المحيط يصبح مثل إنسان تم استئصال كبده لا يستطيع مواصلة الحياة.
مطاردة بلا هوادة
ويقول بعض الصيادين الآن إنه يجب إبعاد الطائرات عن مجال الصيد, لأن سمكة المنهادن المسكينة لا تجد لها مكاناً تختبئ فيه, وهي في حاجة إلى أن ترتاح قليلاً حتى تتكاثر وتستعيد البيئة البحرية توازنها, إن من الصعب إحصاء عدد الأسماك من هذا النوع الذي يوجد في المحيط, ولكن من السهل رصد بعض الإحصائيات الصناعية, ففي السنوات الأخيرة لم تتمكن السفن المتخصصة في صيد المنهادن إلا من اصطياد عشر الكمية التي كانت تصطادها في الخمسينيات من القرن الماضي رغم تطور طرق الصيد, وهناك العديد من الشركات الكبرى التي ازدهرت وأثرت بسبب هذه السمكة المسكينة مهددة الآن بالافلاس.
ويتعرض المحيط للعديد من المشاكل الأخرى بسبب إلقاء مخلفات الصناعات الكيميائية في مياهه, فهذه المخلفات تولد مناطق ميتة من المياه لا يوجد فيها أكسجين وتتكاثر فيها الأسماك الهلامية التي تتغذى على بيض السمك وعلى يرقات العديد من أنواع السمك وعلى رأسها سمكة منهادن.
وماذا عن الخليج?
إن ما حدث في المحيط المفتوح يجعلنا نعود مرة أخرى إلى الخليج العربي شبه المغلق والذي يشهد أكبر حركة في العالم لنقل النفط, فالعديد من حاملات النفط العملاقة تلقي في المياه الملوثة بقايا هذا النفط, كما أن الصناعات التي تقام على الخليج تلقي فيه مخلفاتها وهي في الغالب مخلفات كيميائية لا تذوب في الماء ولكنها تتحول إلى مواد سامة لكل ما فيه من أحياء, والأشد أثراً من ذلك كله أن الكويت قد شهدت منذ أعوام قليلة ظاهرة خطيرة عرفت بظاهرة (المد الأحمر) وقد تسببت هذه الظاهرة في موت الآلاف من الأسماك الصغيرة التي يطلق عليها أهل الخليج مسمى سمك (الميد), وهي سمكة صغيرة إذا تأملناها وجدنا أنها تشبه إلى حد كبير سمكة منهادن التي تحدثنا عنها, وربما كانت تقوم بنفس الدور الذي تقوم به في تنقية الخليج, أي أن سمك (الميد) كان كبد الخليج دون أن ندري, وما حل به بسبب المد الأحمر وتناقص أعداده بشكل كبير هو الذي سبب الكارثة الجديدة, إن الطبيعة دائماً تضع أسرارها في أضعف مخلوقاتها, ويعطينا الله في خلقه المثل والعبرة, ونحن نوجه دعوة هنا لكل الجهات المعنية بالبيئة البحرية في الكويت والخليج العربي من أجل دراسة هذا الاحتمال حتى نحافظ على ثروتنا البحرية وحتى لا تقع كارثة أخرى.