رشيد.. قلب التاريخ

رشيد.. قلب التاريخ

اسمي يحيى.. وقد ذهبت مع أبي لزيارة مدينة مصرية معروفة هي رشيد. وهي مدينة مليئة بكل شواهد التاريخ
الذي مر على هذه البقعة من وطننا العربي.

ولعل أغرب ما لفت انتباهي في موقع المدينة هو التقاء نهر النيل بالبحر الأبيض المتوسط فأحدهما يميل لونه للاخضرار, أما الثاني فهو لون مياه البحر الزرقاء, إنهما يمتزجان دون أن يفقد أحدهما لونه, وكأنما نزل فيهما قول الحق في سورة الرحمن مرج البحرين يلتقيان , وتقع رشيد على الضفة الغربية لأحد فرعي دلتا النيل والذي يحمل اسمها وهو (فرع رشيد) وهي تقع شرق الإسكندرية.

ويوجد عدد كبير من الشواهد الأثرية الإسلامية في المدينة, وهي بذلك تحتل المكانة الثانية بعد القاهرة في آثارها الإسلامية, حيث يوجد برشيد 22 منزلاً أثرياً و12 مسجداً, وطاحونة أثرية واحدة اسمها طاحونة (أبو شاهين) ملحقة بمجموعة (الأماصيالي) وهي تدور في مدارين ويرجع إنشاؤها لأوائل القرن التاسع عشر ويوجد حمام أثري واحد تم ترميمه أخيرا واسمه (حمام عزوز) وبوابة واحدة متبقية من سور رشيد الأثري القديم اسمها (بوابة أبو الريش) تم ترميمها أيضاً, وقلعة واحدة في منطقة البرج وهي قلعة (قايتباي) التي شيدها قايتباي عام 901هجرية وهي مقامة مكان معبد بطلمي قديم يعود إلى بطليموس الخامس وهي ذاتها القلعة التي عثروا فيها على حجر رشيد.

ومن أشهر البيوت الأثرية في رشيد بيت (عربكلي) والذي يعود إنشاؤه لما يزيد على الثلاثمائة عام. وقد أنشأه عربكلي حينما كان محافظاً لرشيد, وقد تم تحويله إلى متحف رشيد الوطني. ومن البيوت الأثرية الأخرى نذكر (منزل المازوني) و(بسيوني) و(كوهية) و(محارم) و(القبوداني) و(العرابي) ومعظم هذه البيوت يقع في شارع دهليز المُلْك الذي كان مسرحاً لعمليات المقاومة الشعبية ضد الإنجليز منذ ما يزيد على المائتي عام.

الأزهر الرشيدي

أما عن المساجد, فيتصدرها في الشهرة مسجد زغلول الذي تبلغ مساحته نحو أربعة آلاف متر مربع, وهي تقترب بهذا من مساحة الأزهر الشريف بالقاهرة, ولا يقف الأمر عند هذا الحد, بل إن هذا المسجد قد لعب دوراً مماثلاً لدور الأزهر, ولكن على المستوى الإقليمي إذ كان مركزاً للعلم والحركة الدينية والوطنية, وقد درس فيه كبار مشايخ الأزهر ونذكر منهم الشيخ السادات والشيخ الجارم, وكان أشبه بغرفة عمليات أثناء المقاومة الشعبية للإنجليز, وحسبنا في ذلك أن نذكر أن إشارة البدء للانقضاض على حملة فريزر (الله أكبر حي على الجهاد), قد انطلقت من مئذنته, حتى أن الإنجليز حينما عاودوا الهجوم بفرقة أخرى للثأر من المدينة فقد قصفوا المدينة بالمدافع من جنوب رشيد وكان أول ما قصفوه مئذنة هذا المسجد التي ظلت حتى يومنا هذا شاهداً على هذا الاعتداء على المقدسات الدينية في مصر.

متحف رشيد

ويمثل متحف رشيد ذاكرة المدينة, ويعتبر نموذجا تجميعيا لملامح المنازل الأثرية في رشيد, سواء من خلال وجود عدد كبير من النوافذ المغطاة بالخشب المخروط (المشربيات) التي تجدد الهواء داخل المنزل, كما تحافظ على خصوصية أهل البيت, حيث يمكنهم رؤية من بالخارج في حين لا يستطيع هو رؤيتهم, وهي بيوت جميلة مبنية على نحو يلائم طبيعة حياتنا وتقاليدنا نحن العرب, ومستخدم في بنائها الطوب المكحول والمنجور (أي الملون والمحروق) لا تشعر وأنت بداخلها ببرد الشتاء أو قيظ الصيف, وتشعر في كل طابق منها أنه بلغ مداه في الاتساع حتى إذا كان البيت صغيراً كما تشعر براحة وحرية في حركتك بداخله, قال لنا أمين المتحف أن هذا البيت تم ترميمه أكثر من مرة كان آخرها عام 1995, وهو يتألف من أربعة طوابق في كل طابق بهو رئيسي كبير تطل عليه الغرف, وبه العديد من المقتنيات ومن أهمها تمثال نصفي لشامبليون وآخر لمحمد علي باشا وثالث لعلي بك السلانكلي, ومجموعة من السيوف التي تعود للقرنين 18 و19, وبعض الخزفيات المنزلية الأثرية, كما شاهدت في المتحف صورة لوثيقة إسلام مينو ثالث قواد الحملة الفرنسية على مصر ووثيقة زواجه من (زبيدة) الرشيدي ونموذجا مجسما لأسرة رشيدية تأكل السمك, وثلاثة نماذج مجسمة لمشاهد قتالية لأهالي رشيد ضد حملة فريزر, فضلا عن نموذج لقلعة قايتباي وتجري في المتحف حاليا عمليات تطوير في المقتنيات وأسلوب العرض.

حجر رشيد

وفي السيارة سألت عن وجهتنا ونحن نسير بمحاذاة ضفة النيل, فقال أبي لي نحن متوجهان الآن إلى قلعة رشيد (قلعة قايتباي) في منطقة البرج, فوجدتها قلعة حصينة, غير أنها بسيطة التصميم رائعة الشكل تحمل ملامح عمارة العصر الذي انشئت فيه وهو العصر المملوكي, وهناك وقعت عيناي على نموذج بالحجم الطبيعي لحجر رشيد وهو حجر بازلتي أسود, وقد عثروا عليه في هذا المكان التي تقوم عليه القلعة, عثر عليه ضابط فرنسي اسمه (بوشار) حينما كان مكلفا بهدم هذه القلعة لبناء قلعة فرنسية مكانه, وأصل هذا الحجر موجود في المتحف البريطاني بمقتضى اتفاق جرى بين الإنجليز والفرنسيين بموجب اتفاقية عام 1801م, ولقد استطاع شامبليون فك رموز هذا الحجر مع فريق عمل من الأثريين بعدما يقرب من خمسة وعشرين عاماً, والنص المكتوب على الحجر مدون بثلاث لغات هي من أعلى إلى أسفل (الهيروغليفية) ثم (الديموطيقية) أي لغة الحياة اليومية للمصريين في عهد البطالمة, ثم اللغة الإغريقية (اليونانية) ويقول الباحثون إن الحجر يعود لعهد بطليموس الخامس, وبفضل فك رموز هذا الحجر أمكن التعرف على تاريخ الحضارة الفرعونية الحافلة من خلال معرفة لغتها.

نشاطات أهل رشيد

ولشد ما كانت دهشتي ونحن في الطريق إلى رشيد قبل الوصول إليها بكيلو مترات قليلة, حيث رأيت العديد من حدائق الفواكه, فضلاً عن هذه المزارع مترامية الأطراف من النخيل حتى تخيلت أن رشيد كلها نخيل, ولقد زالت دهشتي حينما قال لنا الأستاذ مقبل عطية صديق أبي أن برشيد ما يزيد على المليون ونصف المليون نخلة مثمرة التي تنتج أجود أنواع البلح في العالم كما يتم تصدير العديد من فسائلها إلى بعض الدول العربية كما هاجرت حوالي ربع مليون نخلة على مدى الأعوام الماضية للمدن الجديدة ومدن الساحل الشمالي.

وهذا يفسر وجود وانتشار حرفة صناعة الأقفاص والحبال والأثاثات المنزلية البسيطة كالمقاعد والموائد والأرائك وهي مهنة توارثها العاملون بها عن الأجداد, أيضاً اشتهرت رشيد بصناعة مراكب الصيد بأنواعها وجميع أحجامها وكذلك احتياجات الصيادين, ويعمل 15 ألف مواطن رشيدي بالزراعة ومثلهم في صناعة مراكب الصيد, وأربعة آلاف منهم في صناعة الأقفاص, ونحو ثلاثة آلاف بمضارب الأرز الرشيدي.

كفاح رشيد

وبينما كنا نجتاز شارع (دهليز المُلْك) قفزت إلى خاطري فوراً تلك القصة التي حكاها لي أبي من قبل عن حملة فريزر, فما كادت رشيد تلتقط أنفاسها من وطأة الحملة الفرنسية حتى داهمتها أطماع الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس آنذاك, وهي بريطانيا التي جاءت تستولي على مصر بجيش يقوده فريزر والذي استولى على الإسكندرية وزحف لرشيد ليستولي عليها, وكان محافظ رشيد آنذاك هو (علي بك السلانكلي), وكان شيخ مسجد زغلول عالما فقيها ومجاهدا اسمه الشيخ حسن كريت) وقد قررا مواجهة هذا الجيش بالإيمان والحيلة, وكانت خطة حسن كريت أن يقتدي بموقف الرسول عليه الصلاة والسلام, حينما تحصن بالمدينة فإذا دخلها الكفار انقض عليهم, وكانت خطة علي بك السلانكلي تتمثل في الاقتداء بموقف طارق بن زياد حينما أحرق مراكبه وقال لجنوده البحر من ورائكم والعدو من أمامكم, فأبعد مراكب التعدية في النيل إلى الضفة الأخرى منه, وخطط لإبعاد مراكب الإنجليز إلى عرض البحر المتوسط حينما ينزل آخر جندي منها وقام السلانكلي بخدعة ذكية إذ أوعز لفريزر عبر قنصله بأنه لا يوجد في رشيد من يحميها, وأهلها ينوون الاستسلام مقابل الأمان, واتفقا (السلانكلي وكريت) مع الأهالي أن يتحصنوا في بيوتهم مع الجنود النظاميين حتى يسمعوا إشارة البدء من مئذنة مسجد زغلول (حي على الجهاد) فما كان من الإنجليز إلا أن توغلوا في شارع دهليز المُلْك حتى انطلقت الإشارة وانقض عليهم أهل رشيد ودحروهم فقتلوا الكثير وأسروا الكثيرين منهم.

 

 


 

ماهر حسن