شجرة المناجم تتذكّر

شجرة المناجم تتذكّر

كانت أياماً مؤلمة تلك التي مرّت عليّ في البداية, هنا, في جنوب إفريقيا. صحيح أن الوضع تغير الآن, وصاروا يطلقون عليّ أسماء جميلة مثل (الشجرة الحارسة) أو (الشجرة المعطرة), لكنني لم أنس تلك الأيام البعيدة التي كان سكان البلاد الأصليون يسمّونني فيها: (شجرة الشيطان الأبيض) أو (الشجرة الشريرة) أو حتى (الشجرة المتوحشة).

مثل كل أشجار الكافور في العالم, يعود أصلي إلى قارة أستراليا, وأنا شجرة صبورة, تعلمت من تقلبات المناخ في أستراليا أن أحتاط للظروف الصعبة التي تمر فيها أعوام دون أن تنزل على الأرض قطرة مطر واحدة, فعندما تنمو جذوري أمدها بعيداً وعميقاً حتى تتشرّب من رطوبة باطن الأرض أو ترتوي من المياه الجوفية البعيدة. وأمتاز عن معظم أشجار العالم بوجود كتلة ضخمة بين جذوري أستخدمها كخزان للماء يرويني في المواسم التي ينقطع فيها المطر, لهذا أصمد وأعيش برغم سنوات الجفاف مهما كانت قاسية.

في سنوات الاستعمار - مع الأسف - حدث انتقالي من أستراليا وانتشاري في معظم بلاد العالم, فالمستعمرون كانوا يأخذون بذوري لزراعتها في البلاد التي لا يحتملون حرارة شمسها في آسيا وإفريقيا, لأنني دائمة الخضرة ومنتشرة الفروع, وأوراقي غزيرة, لهذا أفرش مساحة واسعة من الظل على الأرض عندما تسطع الشمس فوقي.

لم يلتفت أبناءجنوب إفريقيا الأصليون - في البداية - إلى ظلي الطيب, أو عطر أوراقي المطهر والشافي من الأمراض, بل أفزعهم نموي وانتشاري بسرعة, فبذوري التي تسقط مع هبات الهواء على الأرض سرعان ما تتحول مع أقل كمية من الماء إلى نبتات تصير أشجاراً. هذه طبيعتي التي ليس فيها أي قصد شرير, لكن أبناء جنوب إفريقيا الأصليين ربطوا بيني وبين المستعمرين البيض الذين جلبوني معهم, ورأوا في نموّي وانتشاري استعماراً آخر يحتل الأرض ولا يسمح لأشجارهم الأصلية بالوجود.

مرت أعوام طويلة مريرة كنت فيها الشجرة المكروهة من السكان الأصليين, يشيرون إليّ بأسماء عدائية, ويتشاءمون من وجودي على أرضهم, ويقطعونني أو يحرقونني كلما استطاعوا, لكن اكتشاف الذهب والألماس في جنوب إفريقيا غير مصيري, فكثير من المناجم كانت تحفر تحت الأرض التي أقف عليها, ولأن جذوري الطويلة المتشعبة كانت تصنع شبكة واسعة في الأرض المكوّنة لسقف المنجم, فإن أيّ تحرّك للتربة كان يجعل هذه الجذور تلتوي وتحتك معا, فتصدر أصواتاً تشبه صرير الأبواب, يسمعها العمال - ومعظمهم من السكان الأصليين- في جوف المنجم بوضوح, وتشكّل لهم أجراس إنذار طبيعية تنبئهم بقرب انهيار المنجم, فيخرجون منه مسرعين, ويفلتون من مصير الموت تحت تراب وصخور المنجم المنهار.

الآن صرت شجرة محبوبة من أبناء جنوب إفريقيا جميعا - الأصليين والذين جاءوا إليها- وهم يحرصون على زراعتي في الأرض التي يحفرون فيها مناجمهم, لهذا يسمونني بحب (شجرة المناجم), وهي تسمية تسعدني, وتجعلني أتسامح مع ذكريات الأيام المؤلمة التي مرت وصارت بعيدة

 


 

محمد المخزنجي





خلف النصب التذكاري لأقدم مناجم الذهب تظهر شجرة الكافور





شجرة الكافور وراء قطار مناجم الذهب في جوهانسبرج