القزويني

القزويني

رسـوم: ممدوح طلعت

(إنها صديقتي... نعم... صديقتي).

ولم يندهش الأب (زكريا القزويني) مما يرويه ابنه عبدالله, إنه يعرفه جيداً, يعشق الرحيل إلى الصحراء, والبقاء هناك وحده لأيام عدة.

لكن, هذا طفل صغير لم يتجاوز الثانية عشرة, فكيف له أن يبقى في الصحراء وحده...? ضحك عبدالله وقال:

- الصحراء... فردوس جميل, لمن يحبه.

وراح يحكي عن علاقته بالصحراء, فلأنها مكان متسع, فإن الصغير يحس به غامضاً كالمجهول, مما يثير خياله للتأليف, والتأمل, نعم التأمل: فهذا قمر يلمع ضياؤه في الليل, وتلك شمس ساخنة تضفي على الرمال ألوانها, وهذه رياح تتحرك بالرمال في دوائر غريبة.

وأحس الأب زكريا القزويني بالسعادة, وقال لابنه:

- اسمع يا عبدالله, لقد عشت في الصحراء عدة سنوات, قبل أن يستقر بي المقام في قزوين, وهي أول مرة أرى فيها الصحراء بعينين مختلفتين.

وقرر الأب أن يقوم بجولة طويلة مع ابنه, عاشق المعرفة, يرحل به إلى الصحراء كي يتأمل معه, ويدرس, ثم يسافر به إلى بحر قزوين, ليشاهد الأمواج, والجزر, وأن ينتقل به إلى الغابة, ليعيشا مع الحيوانات عن قرب.

وطالت الرحلة...

ومرت الأيام, والسنوات, واتسعت مدارك الصغير, الذي صار الآن شابا مليئاً بالحماس تجاه المعرفة, وقال يوما لأبيه:

- أشكرك يا والدي على هذه الرحلة الجميلة, التي لن تنتهي, لأنني اكتشفت أن الكون مرتبط ببعضه, الرياح تحرك الأمواج, والأمواج تدفع السفن, و...

هنا تنهد الأب المريض وقال:

- الرحلة انتهت بالنسبة لي, يا بني, وأمامك العمر لتبدأ رحلتك الخاصة, فاستفد من كل ما هو حولك.

كان التعب قد نال من الأب, ولم يستطع الاستمرار في الرحيل, وبعد أن مات زكريا القزويني ردد الابن:

- سأحوّل بكائي عليك يا أبي إلى بحث دائم عن المعرفة.

وعاد مرة أخرى إلى قزوين, وعندما عرف والي المدينة بعودته استقبله, وقال له:

- لعلك تعلمت من السفر الحكمة, وكيف تكون طبائع الناس.

وقرر الوالي أن يعيّنه قاضياً, كي يحكم بين الناس بالعدل.

لكن وظيفة عبدالله بن زكريا بن محمد القزويني, المولود في أوائل القرن السابع الهجري (عام 605هجرية), لم تشغله عن عشقه للطبيعة, وأخذ يعمّق معارفه في علوم الفلك والكيمياء من خلال الكتب التي استحضرها معه من الرحلة الطويلة.

وعكف على تأليف كتاب رائع, يضم خبرته الطويلة في القراءة, والرحيل, يحمل عنوان: (عجائب المخلوقات).

وانبهر الوالي بما جاء في الكتاب, وقال:

- يا إلهي... كنت أتصوّرك قاضياً عادلاً فقط, فإذا بك تأتيني بكتابك الرائع, إنه من (عجائب الكتب). كان الكتاب يتضمن العديد من الحكايات حول حركة الرياح في الصحراء, والأمواج في البحار, وعما توصل إليه من أسرار حياة الحيوانات والنباتات.

وكان كتاباً عجيباً بالفعل, إنه ليس كتابا عادياً, بل معجم, يمكن الرجوع إليه بسهولة والتعرف على المعلومات مرتبة حسب الحروف الهجائية, فلو أراد القارئ أن يتعرف على (أسد) فما عليه سوى أن يفتح باب الألف والسين.

وذاع انتشار الكتاب في كل بلاد العالم, في القرن الثالث عشر الميلادي, ولم يتوقف عبدالله القزويني عند هذا الكتاب, بل قرر أن يستفيد أكثر من سفره الطويل, وقال ذات يوم لزوجته, وقد صار رجلاً ناضجاً:

هل تعرفين أن في رأسي ذكريات حلوة, ومفيدة للناس عن آثار البلاد التي زرتها?

وراح العالم المليء بالحماس يحكي هذه الأسرار في كتاب, وكأنه يكتبها لابنه, وقال:

هذا أول كتاب أطفال في العالم, إنه بمنزلة تأمل في عجائب صنع الله عز وجل.

وكان ابنه أول مَن قرأ الكتاب.

ولاحظ العالم الجليل, مدى شغف ولده بحفظ القرآن الكريم, فقال له:

هل أدركت حكمة الله في علاقة الإنسان بالطبيعة?

ردد الابن الصغير:

نعم يا أبي, حكمة الله هي التأمل...!!

وبكل حنان الأب, ربت عبدالله القزويني على ظهر ابنه وقال:

لقد أحسنت يا صغيري, حكمة الله الكبرى هي أن نتأمل خلقه, ولو نظرت إلى الآيات الكريمة لرأيتها تدعو كثيراً للتأمل.

وبدأ يحصي له آيات التأمل الكثيرة في كتاب الله, وهنا بدأت رحلة جديدة للبحث, أحسّ أن وراءه مسئولية كبيرة, فالناس في حاجة إلى علمه, ورؤيته للحياة, فراح يكتب عن كل شيء تأمله بدقة.

عن المعادن وأنواعها, المعادن النفيسة كالذهب والفضة, والمعادن المفيدة التي بنى بها الإنسان حضارته, مثل الحديد والنحاس, والرصاص, وفوائدها مذكورة في القرآن الكريم.

وذاعت شهرة القزويني في كل الأمم.

ووقف العلماء مندهشين حول نظراته للعديد من الأشياء.

فالكون عند القزويني ينقسم إلى قسمين: القسم العلوي يضم السماء, وما بها من كواكب ومجرات, وشمس, وقمر, وكان أول من تحدث عن كواكب الزهرة والمريخ والمشتري كأصدقاء للأرض.

أما القسم السفلي, فيعيش الإنسان فوقه, يتضمن الجبال والصحراء, والأرض (وكلها تسمى باليابسة), ثم البحار والأنهار والبحيرات, وهي تصب في بعضها البعض, كما يعيش فيها الإنسان, والحيوان, والأسماك, والحشرات, وتضم كل أنواع النباتات.

وفي عام 682 هجرية ردد القزويني لأحفاده الذين التفوا حوله:

هل تعرفون لماذا يحب الجد أحفاده أكثر? لأنهم يؤكدون بوجودهم أن الحياة تستمر, وأن ما تعلمه الجد, يجب أن يتركه نافعاً للأحفاد.

وبعد أسابيع, انتقل القزويني إلى جوار ربه.

 


 

محمود قاسم