صحراء الثلج... من يحميها من التلوّث?

صحراء الثلج... من يحميها من التلوّث?

القارة القطبية الجنوبية

تخيل مكاناً تغيب عنه الشمس شهوراً طويلة كل عام. وتنخفض فيه البرودة إلى 88 درجة تحت الصفر. ويتحــول فيـــه كل شيء إلى جليد أبيض, ومع ذلك فإن هناك العديد من المخلوقــــات التي تعيش فيه وتجد طعامها وسط هذه الصحـــراء الشاسعة من الثلج الأبيض. إنها القارة الجنوبية (أنتاركتيكا) التي تقـع في الطرف الجنوبي من الكرة الأرضية وتبلغ مساحتها 14 مليون كيلومتر مربع وتحتوي على ثلثي الماء العذب في العالم.

شتاء القارة القطبية طويل يبلغ حوالي 9 شهور كل عام, أما صيفها فهو قصير جداً, ثلاثة أشهر فقط من يناير إلى أول مارس, ولا تزيد فيه درجة الحرارة على 30 درجة تحت الصفر طبعاً.

كيف تم اكتشاف هذه القارة?

إنها قصة طويلة ومثيرة أيضا. في البداية افترض الفلاسفة الإغريق وجودها, فقد قالوا إنه لابد من وجود كتلة أرضية في أقصى جنوب الأرض حتى يحدث نوع من التوازن مع ثقلها الشمالي. ولكن هذا البحث ظل نظرياً, فلم يكن لدى الإغريق الذين كانوا يعيشون في بلاد اليونان القديمة السفن القادرة على القيام بهذه الرحلة. وبعد ذلك بقرون طويلة وبالتحديد في عام 1772 بدأ البحار الإنجليزي رحلته بحثاً عن هذه القارة. وقد عبّر العديد من البحار حتى وصل إليها أولا حيث كانت تمتد مساحات شاسعة من الثلج. وكان أول من هبط إليها صياد حيتان بريطاني يدعى جون بيسكو, وأسرعت النرويج هي أيضاً بتكوين بعثة استكشافية بقيادة أماندسن حتى يكون لها السبق, ولكن ظروف القارة لم تكن تسمح للمكتشفين بأن يقوموا بذلك بالسرعة الكافية, فعندما تتجمد الأنهار تتوقف كل السفن عن السير, ولا يبقى إلا السير بواسطة الزحافات التي تجرها الكلاب.

وبعد الحرب العالمية الثانية بدأ الصراع بين العديد من الدول للسيطرة على هذه القارة, فتم توقيع معاهدة في واشنطن عام 1959 بين أمريكا والاتحاد السوفييتي (سابقا) وشيلي والأرجنتين ونيوزيلندا وإنجلترا وفرنسا والنرويج وأستراليا وغيرها, وقد نصت المعاهدة على اعتبار هذه القارة منطقة خاصة لمزاولة البحث العلمي ومنع استخدامها في الأغراض العسكرية, وقد أقامت 12 دولة حوالي 50 محطة علمية في أنتاركتيكا لدراسة الزلازل والجاذبية المغناطيسية والمحيطات والنشاط الشمسي.

كائنات تعيش في الجليد...

بالرغم من انخفاض الحرارة الشديدة طوال العام بالقارة, إلا أنها لا تخلو من المياه, فهناك العديد من الحيوانات والنباتات التي تتحمل درجة عالية من البرودة, ولقد درس العلماء حوالي 200 نوع من الطحالب, و 70 نوعا من الآشيتات - الآشيتات نوع من النباتات يجمع بين صفات الطحالب والفطريات وهي تمتص كميات كبيرة من الأشعة فوق البنفسجية ولا تؤثر فيها وهي تعتبر بمنزلة إنذار مبكر لتلوث البيئة - بالإضافة إلى العديد من أنواع الحيوانات المختلفة والطيور والكائنات الدقيقة أحادية الخلية, فمثلاً يوجد بالقارة حوالي 14 نوعا من الأسماك أغلبها أسماك قشرية مثل أسماك الكريل التي تعتبر الغذاء الرئيسي للكائنات البحرية الكبيرة التي تعيش بالقارة.

بالإضافة إلى الطيور المختلفة مثل طائر البطريق الملكي وطائر زمك الماء الجليدي وطائر الكركي وهو دائماً ما يهاجم مستعمرات البطريق ويلتهم صغاره, وطائر الأديليس وطائر الجينتوس وطائر الشينسرابس وتعتبر الفيتوبلانكتون وهي كائنات أحادية الخلية ويوجد منها 10 أنواع وتعيش على أعماق مختلفة في مياه بحار القارة إلى جانب الديتومات الغذاء الرئيسي لكل الكائنات التي تعيش في البحر أو البر.

أما النباتات ذات الجذور التي توجد في القارة فهي نبات القرنفل وبعض أنواع النجيليات, ولقد اكتسبت الكائنات الدقيقة والقشريات الصغيرة القدرة على العيش في الجليد دون أن تتأثر أو تموت, وعندما يذوب الجليد تنشط وتبدأ في ممارسة حياتها.

ثقب الأوزون

لم تسلم القارة القطبية الجنوبية من التلوث بالرغم من موقعها في أقصى طرف الأرض, ففي عام 1975 كان هواء القارة يعتبر أنقى هواء على وجه الأرض إلا أن الأمور اختلفت الآن, فدراسة القارة تعطي صورة واضحة عن العصور الأولى لكوكب الأرض, كما تعطي إشارات مهمة عن مدى التلوث وتأثيره الذي تتعرض له الأرض وعلى نظم الحياة المختلفة عليها, فهي بمنزلة باروميتر حسّاس لنشاطات الإنسان.

ثقب الأوزون المستقر فوق القارة القطبية الجنوبية والذي يقال إن مساحته تساوي مساحة القارة تقريبا,ً دفع العديد من العلماء لإقامة مراكز أبحاث بها لمعرفة مدى تأثير زيادة كميات الأشعة فوق البنفسجية على نظم الحياة بها وبالتالي على الأرض كلها.

ولقد توصل العلماء إلى العديد من النتائج المهمة, فإنه بالرغم من أن درجة حرارة الصيف في هذه القارة تصل إلى 30 درجة مئوية تحت الصفر إلا أنه يزورها سنوياً حوالي 3 آلاف سائح مما أدى إلى زيادة معدل التلوث بها.

ففي عام 1989 تسرب من إحدى السفن السياحية حوالي 170 ألف جالون من زيت الديزل في بحار القارة مما أدى إلى موت آلاف الطيور والكائنات الدقيقة, كما أن الصيد الجائر للعديد من الكائنات البحرية يزيد من معدلات التلوث ويهدد بعض الأنواع بالانقراض, فمثلاً أسماك الجونال كان يصاد منها 10 آلاف طن في عام 1975 ووصل ما صيد منها إلى 65 ألف طن عام 1986, وأسماك الكريل القشرية يصاد منها يومياً في جورجيا الجنوبية 85 طنا بالإضافة إلى طنين من أسماك الحبار وكذلك سرطان البحر من نوع الليجانت ذي الظهر الأسود, أما الخطر الأكبر على القارة بل على كوكب الأرض كله فهو ثقب الأوزون الموجود فوقها, فالمعروف أن طبقة الأوزون تحمي الأرض وما عليها من الأشعة فوق البنفسجية الضارة ولكن وجود الثقب أدى إلى زيادة كميات الأشعة فوق البنفسجية التي تصل الأرض.

ويرجع سبب حدوث ثقب الأوزون إلى زيادة نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في مناخ الأرض نتيجة لحرق كميات كبيرة من الفحم والبترول, وقد أدت دراسة الغازات في جليد القارة إلى معرفة وصول معدلها إلى أعلاه, مما يشكّل خطراً على مناخ الأرض كلها لأنه سيؤدي إلى ارتفاع حرارة الأرض وبالتالي خلل كل النظم الحيوية على الأرض وإلى ذوبان الجليد الذي يقول العلماء أنه لو ذاب نصف الجليد بالقارة الجنوبية القطبية لارتفع منسوب المياه في البحار والمحيطات بمقدار 50م, كما توصل العلماء من الدراسات التي أجريت على هواء القارة إلى أن أحد أسباب حدوث ثقب الأوزون هو زيادة استخدام غاز الكلوروكربون وهو غاز يستخدم في الثلاجات وأجهزة التبريد الهوائي, والذي تجمع فوق القارة وبفعل شمس الربيع تحررت من هذا الغاز ذرة كلور أدت إلى تحطيم طبقة الأوزون فوق القارة وظهور الثقب.

أصدقائي... إن القارة القطبية الجنوبية التي كان هواؤها يوماً أنقى هواء أصبحت الآن مثل المدن الكبرى, وبدأت البشرية تفقد مصدرا مهما من مصادرها البيئية المتنوعة, فهل نتنبّه الآن ونحاول جميعاً الحفاظ على البيئة في كل مكان من أجل حياة أفضل?

 

 


 

فايزة رشاد أحمد