الفلاح مامورو والجان

الفلاح مامورو والجان

حكاية من إفريقيا
رسوم: فواز

إنها قصة حسن جوار. كانت بدايتها في حقل لفلاح يدعى مامورو يطل على الحافة المظلمة لغابة مليئة بالقرود وأصوات الطيور. في وسط هذا الحقل تنتصب شجرة باوباب وهو شجر استوائي عريض له ثمرة مليئة بالحب الصالح للأكل, كانت الشجرة رائعة ومهيبة كأنها ملك عجوز عملاق. كان مامورو يحب أن يستريح في ظلها من حرارة الظهيرة المرهقة. وفي ذلك اليوم, وككل يوم, أغفى مامورو بعيون نصف مغلقة ويداه معقودتان فوق بطنه, يهدهده في نعاسه صرير الحشرات في العشب, والنسيم الذي يلعب بالضوء بين أغصان الشجرة الكبيرة. وفجأة, سمع صوتا يدوي فوق رأسه جعله ينتفض. وهم واقفا من فوره في مكانه يحملق بعينيه, فلم ير أحداً, لكنه سمع تلك الكلمات تتردد بحزم عطوف:

ـ أيها الأطفال, حذار من سرقة الذرة في حقل مامورو. صحيح أن مامورو ليس من الجان, فما هو إلا إنس, لكنه من مخلوقات الله مثلنا ولا حول له. فلا يحق لنا أن نحرمه من ثروته.

وإذا لم نجد ما نأكله فسوف نكتفي بلبن الماعز. وعلى كل منا أن يعيش من رزقه.

وسكت الصوت وعاد النسيم يلعب في الفروع المورقة والضجة الخافتة للعشب. ولم يجرؤ مامورو على الحراك. وقال لنفسه مبتسماً: (يا للعجب! هناك عائلة من الجان تعيش في شجرة الباوباب. ولكن هل يمكن لهذه الأرواح القوية أن تكون أفقر مما أنا عليه?). وظل في مكانه متأملاً تحت أوراق الشجرة الواسعة حتى هدأ روعه, ثم استرد فأسه وأخذ يعمل من جديد حانياً ظهره في الشمس الحارقة. وعند حلول المساء وقبل أن يقفل عائدا إلى قريته المكونة من الأكواخ المستديرة, قام مامورو بوضع سلة من حبوب الذرة تحت شجرته. وفي صباح اليوم التالي وجدها فارغة.

وغمره في عمله في ذلك النهار شعور بالرضا, وعندالغروب, تحت الظل اللطيف, قام من جديد بتعبئة سلته بالقرابين. وهكذا, صار يطعم الجان المعوز يوميا حتى جاء أوان المحصول الجديد.

في غداة الحصاد وعندما بدأ موسم الجفاف, رحل سيريبا ابن مامورو إلى المدينة باحثاً عن عمل. ووجد الشاب ملاذاً في كوخ مبني من ألواح الخشب والصفيح الصدئ كان قابعاً في نهاية شارع صغير ملتو عفن الرائحة. وسكن في هذا المكان وظل يكدح في أعمال بسيطة منتظراً مرور شهور القحط. وفور أن لاحظ سيريبا صعود السحب الأولى لموسم المطر في السماء, قام بعقد صرة ثيابه واستعد لمغادرة كوخه. ولكنه ما كاد يشرع في تخطي عتبة الكوخ حتى ظهر أمامه شاب غريب يمد له يده وابتسامة عريضة تضيء وجهه. وقال الشاب قبل أن يفتح سيريبا فمه:

ـ أعلم أنك عائد إلى قريتك. فليصاحبك الحظ! هل يمكنني أن أعهد إليك بكيس صغير من المال تسلمه إلى والدي?

ـ بكل سرور, أجابه سيريبا غارقاً في دهشته, لكنني أجهل قريتك أو اسم عائلتك.

ـ هذا صحيح, قال الآخر ضاحكاً, أنا ابن الجن الذي يسكن شجرة الباوباب العجوز في حقل والدك. خذ علبة المسحوق هذه, وعندما تصل إلى ظل الشجرة ضع ذرة منه على طرف لسانك وستجد نفسك في الحال أمام باب بيتنا. وسوف يجري نحوك كلب أصفر ضخم فلا تهتم به. ثم اذهب مباشرة نحو العجوز الذي ستراه وسط الفناء, وقم بإعطائه هذا الكيس وأخبره أنني بخير. إلى اللقاء يا صديقي. وليحفظك الله.

ونظر سيريبا مندهشاً إلى يده اليمنى وبها كيس المال وإلى يده اليسرى التي لمعت بها علبة صغيرة من الخشب القاتم.

ولم يعد هناك أحد أمامه فقد اختفى الشاب.

عند رجوعه للقرية وما كاد أن ينتهي من تقبيل أفراد عائلته, إلا وأخذ يحكي لأبيه مامورو عن لقائه الغريب. واستمع له مامورو باهتمام ثم رفع سبابته أمام وجهه قائلا:

ـ يا بني, إن الجان في الباوباب جيران لنا. ونحن ندين لهم بالمساعدة والنجدة. ستذهب من الغد لتوفي بالمهمة التي عهد بها إليك.

وهكذا في الصباح الباكر لليوم التالي ذهب سيريبا إلى حقل والده وتوقف في ظل الباوباب. ثم أمسك مرتعشاً بحفنة من المسحوق الذي في قاع العلبة ونشرها على لسانه. وفي الحال وجد نفسه أمام قصر باهر من الحجر الأبيض له أربعة أعمدة من الذهب الخالص ترتفع فوقها قبة من الفضة تلاشت قمتها في زرقة السماء. وتقدم سيريبا منبهراً نحو ذلك القصر. كان الحصى الذي يصر تحت خطواته مكونا من ماس وأحجار كريمة ملونة. ودفع الباب بيده وإذا بكلب ضخم ذي فروة ذهبية وأنياب مخيفة يسرع نحوه مزمجراً كالرعد في السماء. وللحظة تملك الخوف من سيريبا الذي أدخل رأسه بين أكتافه, ثم تذكر ألا خوف عليه. فتقدم بشجاعة, وفجأة هدأ الوحش وبدأ في شم يديه ومرافقته.

في وسط الفناء المشمس كان هناك عجوز نائم في سرير معلق. وكانت لحيته البيضاء الطويلة مكورة مثل التل اللين فوق بطنه. وأشار العجوز لزائره مرحباً.

ـ اجلس أيها الشاب. بحسب ذكرياتي الطويلة لم يخط أي إنسي أبداً عتبة بيتي. فأهلا بك وسهلاً ألف مرة.

وضع سيريبا تحت قدميه كيس المال الذي عهد به إليه ثم طمأنه عن أحوال ابنه. عندئذ ابتسم العجوز سعيداً بسماع أن ابنه يعيش بشكل لائق في المدينة البعيدة. ثم تبادلوا الحديث حتى حلول المساء فأكلوا معا فاكهة وشربوا مياها باردة. وعندما استأذن سيريبا في الذهاب صاحبه الشيخ الجليل حتى مدخل القصر قائلاً له:

ـ أيها الإنسي إن أحجار الماس التي تراها هنا ليس لها أي قيمة لدينا. لكن يبدو أنكم تقدرونها. فإذا كان ذلك صحيحاً فخذ منها قدر ما تريد.

وأخذ سيريبا يملأ يديه ويعبئ جيوبه ثم اقترب منه العجوز ووضع يده فوق عينيه.

وللحظة أظلم العالم, وعندما أضاء ثانية وجد ابن مامورو نفسه واقفاً في حقل عائلته تحت شجرة الباوباب الكبيرة. واقترب منه والده وأخذه من كتفه. ثم عادا سوياً إلى القرية, وقد صارا أثرياء, وهما مستمتعان في سكون, بالليل الهادئ, بسعادة الشعور بالجوار المطمئن لتلك المخلوقات الوديعة.

 


 

نجوى حسن