رحلة على ظهر فيل: ضخم ولكنه طيب القلب

رحلة على ظهر فيل: ضخم ولكنه طيب القلب

الطيبة هي أفضل صفة يمكن أن تنطبق على الفيل, والذي يعد أضخم الحيوانات التي مازالت موجودة على ظهر الأرض, ولا يوازيه في الضخامة إلا الحوت الذي يسبح في البحار, وبرغم حجمه الذي يهز الغابة كلما سار, فإنه مخلوق نبيل, لا يعتدي على أي حيوان إلا عندما يثير غضبه, ويكتفي بأكل العشب وأغصان الشجر, ولا يتناول أي نوع من اللحوم. وقد قال عنه الفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو الذي عاش عام 350 قبل الميلاد: (إن الفيل هو أكثر الحيوانات حكمة, ويكفي أنه عندما يشعر أنه على وشك الموت ينسحب بعيداً عن القطيع حتى لا يعطل سيره ويذهب ليموت وحيداً).

ورغم ذلك فإن الإنسان لم يترك هذا الحيوان الطيب في حاله, فبنادق الصيادين تلاحقه, كما أن الفخاخ تنصب له في جميع أرجاء الغابة, ولا يتوقف الأمر عند اصطياد الفيل من أجل وضعه في حدائق الحيوانات, أو تدريبه على الألعاب المسلية التي يحبها الأطفال, ولكن المشكلة هي الرغبة في الحصول على أنياب هذا الفيل, وهي أنياب طويلة من العاج الخالص تستخدم في الزينة وصناعة الحلي وبعض الأغراض الأخرى, وقد يبدو غريباً لنا أن يتم صيد هذا الحيوان الضخم من أجل مجرد نابين صغيرين نسبياً في الحجم, ولكن الولع بالعاج ومشغولاته كان قد بلغ ذروته في أوربا في القرن التاسع عشر, واستمر إلى السبعينيات من القرن الماضي, وقد دفع هذا بمئات الصيادين إلى الذهاب إلى قارة إفريقيا, وشهدت حملة صيد الأفيال أعلى مستوى لها منذ بدأ التاريخ حتى أوشك هذا المخلوق الطيب على الانقراض, ولم تبق منه سوى أعداد ضئيلة جداً, من حسن الحظ أن العالم قد تنبّه لخطورة هذا الأمر وأصبح الاتجار في العاج محرّماً ولم تعد البلاد الإفريقية تقبل دخوله أو خروجه منها منذ عشرين عاماً تقريباً, وقد انعكس هذا الأمر على الأفيال وأنقذها من الإبادة بعض الشيء, واقتصر الصيد على المهرّبين والخارجين على القانون.

الفيل وخرطومه

والفيل شكله عجيب حقاً, فهو ضخم الحجم, يصل ارتفاع الفيل الهندي إلى حوالي المترين والنصف, بينما النوع الإفريقي أكثر ارتفاعاً إذ يصل إلى حوالي ثلاثة أمتار وربع, وأذناه أشبه بالمروحة الضخمة, وهو يستعملها فعلاً ليجلب لنفسه الهواء في الأيام الحارة وليبعد بها الذباب والحشرات التي تضايقه, ولكن الفيل يمتاز عن بقية الحيوانات بخرطومه الطويل, وهو واحد من أغرب الآلات الحية التي خلقها الله, فهو يقوم بدور الفم يستخدمه في شرب الماء, وهو كاليد التي يحمل بها الطعام ليضعه في فمه وكذلك يحمل به الأثقال ويدافع به عن نفسه, وهو كالأنف يشم به الروائح التي تحيط به, وهو يملأه بالماء ليرشه على جسده كلما أراد الاستحمام, كما أنه يداعب به أولاده ويؤدي التحية للآخرين.

الأم الحزينة

وللأفيال حياة اجتماعية يحسدها عليهم البشر, فهم يسيرون دائماً في جماعات, والقطيع كله مكوّن من أقارب وأسر وقد يصل حجم القطيع الواحد إلى 300 فيل من مختلف الأعمار, ومن الطبيعي أن تشاهد في الغابة أسرة كاملة تضم الأب والأم والأطفال الصغار, وعندما يبدأ الأطفال الصغار في تناول الطعام يقف الأب والأم في حراستهم حتى يشبعوا تماماً, ويكون من واجب الأب أن يقف بعيداً بعض الشيء حتى ينبههم لدى اقتراب أي غريب, بينما تقوم الأم بإنزال فروع الشجر العالية بواسطة خرطومها حتى تكون في متناول طفلها الصغير, وعندما تحس أنثى الفيل بالخطر فإن أول ما تفعله هو أن تفرد أذنيها في الهواء, وتأخذ صغيرها خلف خرطومها وتبدأ في إصدار الأصوات المزعجة حتى تحذر من يحاول الاقتراب منها, وقد روى أحد الصيادين أنه شاهد فيلا صغيرا فقد خرطومه بواسطة أحد الفخاخ, ثم شاهد أحد الأفيال الأكبر سناً وهو يقف بجانبه ويحمل الطعام بواسطة خرطومه ويضعه في فم الصغير مرة وفي فمه مرة, وهكذا حتى شبع الصغير تماما, ويروي صياد آخر أنه شاهد قطيعاً من الفيلة فوجئت الأم فيه أن طفلها الصغير قد أصابته رصاصة أحد الصيادين, وعندما سقط على الأرض عادت الأم وأخذت تصرخ بصوت عال يمزق القلب, لقد أظهرت من الحزن العميق ما يشبه حزن أي أم من بني البشر, ويضيف الصياد أن هذا المشهد قد جعله يخجل من نفسه ويقسم أنه لن يعود للصيد مرة أخرى.

قائد القبيلة

والأفيال في إفريقيا نوعان, نوع منها يعيش داخل الغابة, والنوع الآخر يعيش وسط الأعشاب البرية في السهوب والتي يطلق عليها السافانا. ويقول أحد علماء الحيوان إن الناس في إفريقيا كانوا يعيشون في الماضي مثل جزيرة وسط بحر من الأفيال, أما الآن فهو العكس تماماً, فقد كان الصيد الجائر سبباً رئيسياً في تناقص عدد الأفيال كما ذكرنا من قبل, وقد قتل في السبعينيات من القرن الماضي - أي خلال عشر سنوات فقط حوالي 600 ألف فيل, وهو رقم رهيب لم تستطع الطبيعة أن تعوّضه حتى الآن, إذ لا يزيد عدد الأفيال الموجودة في إفريقيا الآن على 500 ألف فيل موزعة في 12 دولة بين الغابات والسهوب, ويبلغ عمر الفيل في المتوسط حوالي 50 عاماً, وهو عمر كبير بالقياس إلى غيره من الحيوانات.

وتتنقل الأفيال من مكان إلى آخر حسب حالة المطر - تماماً كما تفعل القبائل البشرية - وهي تبحث دائماً عن الأماكن التي يتوافر فيها الماء والخضرة, وهي ليست رحلة عشوائية, ولكن يقودها الأفيال الأكبر سنـــاً والأكثر خبــرة في القطيع, ومن خلال هذه الرحلات المتوالية يكتسب الصغار خبرة الطريق حتى يكون في مقدورهم قيادة القطعان فيما بعد.

الفيل وابن آوى

والقصص التي تروى عن طيبة الأفيال وعن حكمتها كثيرة جداً, وهو حيوان صبور ولكنه عندما يغضب لا يمكن لأحد أن يوقف غضبه, وهو طيب حقاً ولكنه ليس مغفلاً, ولعل الحكاية الإفريقية التالية تبين لنا بعضاً من هذه الصفات.

يحكى أن ابن آوى - وهو حيوان صغير ولكنه مزعج - قال للفيل

- يا سيد الغابة, إن على الضفة الأخرى من النهر حفلاً رائعاً مليئاً بكل أصناف الخضراوات الطازجة, ما رأيك إذا عبرنا النهر وتناولنا العشاء هناك الليلة.

وفكر الفيل قليلاً ثم قال: إنها فكرة جيدة.

وعندما أصبح القمر في منتصف السماء, جاء ابن آوى للفيل وقال له: هيا بنا نذهب.

وعند النهر, لم يكن ابن آوى يعرف السباحة, لذلك صعد إلى ظهر الفيل الذي عبّر به النهر في أمان تام, وهناك كانت القرية كلها نائمة ولكن الحقول كانت ممتدة تحت ضوء القمر مليئة بالخضراوات الرائعة, وبدأ ابن آوى يأكل في سرعة ونهم, وكلما همّ الفيل بتناول أيّ نوع من الطعام, أسرع ابن آوى الذي كان صغيراً وأخف حركة من الفيل بالتهامه من أمامه, وبعد قليل لم يبق أمامه إلا البقايا, ورغم ذلك كظم الفيل غيظه وحاول أن يجد ما يسد به جوعه, ولكن فوجئ بابن آوى وهو ينام على ظهره ويبدأ في إصدار العديد من الأصوات العالية والمزعجة, وعبثاً حاول الفيل إسكاته حتى يتناول وجبته في هدوء, ولكن دون فائدة.

استيقظ أهل القرية على الأصوات وخرجوا وهم يحملون العصي والرماح والبنادق, وحين سمع الفيل جلبتهم لم يجد بدّاً من الفرار وهو مازال جائعاً, وعند النهر ركب ابن آوى على ظهر الفيل وبدأ الفيل في السباحة, وفي منتصف النهر تماماً توقف الفيل وسأله:

- لماذا أصدرت كل هذه الأصوات المزعجة التي أيقظت الجميع?

قال ابن آوى: هذه عادتي دائماً, أحب أن أغني بعد أن أتناول العشاء.

وفي الحال أخذ الفيـــل يتــحرك يمنة ويسرة, وأحسّ ابن آوى أنه يوشك على الانزلاق من فوق ظهره فهتف في فزع:

- ماذا تفعل?

قال الفيل: هذه عادتي دائماً أحب أن أتقلب بعد العشاء.

وتركه في منتصف النهر.

 


 

محمد سيف





عناق ومـودّة بواسطة الخراطيم





رحلة عبر النهر, الأب والأم يعلمان الصغار كيف يسبحون.





أسرة من الفيلة تروي عطشها وسط الغابة.





أفيال في وقت الخطر, الأب يرفع أذنيه كالمروحة, والأم تحمي صغيرها بخرطومها.