مغامرة في الصحراء

مغامرة في الصحراء

أخذ أبو شعلان جرعة من جرة الماء البارد أمامه, ثم قال:

- من منكم يا أولاد, يعرف أين كنّا, قبل أن نستقر في هذه القرية الطيبة? ارتفعت أصوات الأولاد وتداخلت, فقطعها أبو شعلان بقوله: كنا قبل أن نستقر في هذا المكان الطيّب, ندور في الصحراء الواسعة, ونتنقّل من مكان إلى آخر طلباً للمرعى, يرافقنا في حلّنا وترحالنا, الحصانان الجميلان اللذان في الحظيرة.

قالت بدور : إنهما (الأدهم) و (الأبلج), أليس كذلك يا جدي? قال الجدّ: نعم يا (بدور) إنهما الحصانان الرائعان (الأدهم) و(الأبلج)... وتابع يقول بصوت منخفض, وكأنه يتحدث إلى نفسه: أحبّ هذين الحصانين كأولادي.

.... وفي ليلة من الليالي, يا أولاد, تابع الجد, بينما كنا مخيّمين في ظل تلّة من الرمل, قدمت قافلة من الرجال على أحصنتهم وجمالهم, ونزلوا بقربنا, في الجانب الآخر من التلة, ولم ينتبهوا لوجودنا? وبينما كانوا يتسامرون في الليل, سمعنا أحدهم يقول للآخر: هل مازال الطريق إلى الكنز طويلاً? فأجابه رفيقه: أعتقد أنه على مسيرة يومين أو ثلاثة أيام من هنا... خلف تلك البلاد البعيدة.

قاطعت (بدور) جدها قائلة: ولكن... ما هو الكنز يا جدي? إنك تحدّثنا عن الكنز, وأنا لا أعرف ما هو الكنز?

أجابها أبو شعلان: الكنز يا ابنتي هو مجموعة من الجواهر والذهب والدرر الثمينة, مخبأة في داخل الأرض, ولابد للوصول إليها, من البحث والتعب.

وتابع (أبو شعلان) حديثه قائلاً: حين سمعنا بأخبار هذا الكنز, أخذنا نفكّر في الغنى الذي ينتظرنا عند الوصول إليه, صار والدكم (شعلان) يتخيّل المنزل الجميل الذي سيعمّره, وجدتكم (أم شعلان) تحلم بالثياب المزركشة التي تنتظرها عند البائع. أما أنا فأوّل ما فكّرت فيه, كان حظيرة عامرة بالخيول العربية الجميلة, التي أحبّها كما أحبكم أيها الأولاد.

وهكذا صممنا على المسير للبحث عن كنزنا الموعود, ومشينا في الصباح الباكر, قبل أن يطلع قرص الشمس من جهة المشرق, تجوّلنا كثيرا في البوادي, وتعبنا ونحن ندور في الصحراء, ونتنقل بين كثبان الرمل, نصعد إلى تلة, ونهبط إلى واد, على أمل الوصول إلى الكنز الموعود. وكدنا نفقد الأمل في الوصول للكنز قبل أن يسبقنا اليه أحد. كنا نمر ببعض الرعيان والبدو المتنقلين هنا وهناك. ونسألهم عن بعض إشارات الطريق, ولكن أحداً منهم لم يكن يعرف إلى أين يرشدنا... فالصحراء واسعة, ومكان الكنز سرّ غامض.

وكان أحياناً, يظهر لنا مكان بعيد يلمع فيه شيء شبيه بالماء فنتقدم نحوه, وحين نصل إليه, نكتشف أنه السراب.

قال (مروان) وكان أكثر إخوته اهتماماً بالحكاية:

وما هو السراب يا جدّي?

قال الجد: السراب يا (مروان) هو ما يظنّه السائر في الصحراء ماء عن بعد, فإذا وصل اليه, وجد أنه خداع نظر وليس ماء.

وتابع الجد: كنّا قد تعبنا من التجوال في الصحراء, وجلسنا نرتاح قليلاً حين بدأ (الأدهم) يحمحم و (الأبلج) يضرب حوافره في الأرض, وكأنهما أحسّا بأمر غريب ينتظرنا... فمفاجآت الصحراء كثيرة.

قالت (ليلى): لعلّه الكنز الموعود, أو أثر من الآثار التي تدلّ على مكانه.

قال أبو شعلان: إنهم اللصوص يا (ليلى)... سارقو القوافل والعابثون بأمن الناس. نعم يا ابنتي, لقد كانوا مجموعة من اللصوص قطعت علينا الطريق... ولكن, كما تعلمين, فإنه إذا اجتمع جدك وأبوك وكان (الأدهم) و(الأبلج) حاضرين, فالويل للأعداء.

قال (مروان) وقد ظهر عليه اهتمام مضاعف بالحكاية, وهو يدفع أخته (ليلى) ليزداد قرباً من جده: هل هزمتم اللصوص يا جدي? كيف?

قال أبو شعلان, وقد انتفخ صدره باعتزاز, وارتفعت نبرة صوته:

- كيف? تخيّل عاصفة هوجاء تنزل باللصوص: هذا هو (الأدهم). تخيّل سيفا من البرق يخطف الأبصار: هذا هو (الأبلج). كان أبوك (شعلان) يصول ويجول فوق الرمال, ويدعو اللصوص للقتال, كأنه بطل الأبطال, واللصوص تفرّ من بين يديه, مثل النعاج الخائفة.

قالت (بدور) وقد غاب النعاس عن عينيها السوداوين, واشتدّت حماستها للحكاية:

- وأنت يا جدي, أنت... ماذا فعلت في المعركة?

قال أبو شعلان: كنت أضرب الواحد منهم ضربة تنهدم منها الجبال, فيصرخ من خوفه, ويتمنى لو تبتلعه الصحراء, وكان (الأبلج) تحتي, يكرّ ويفرّ, ويتقدم ويتأخر, ويجول ويصول, كأنه عاصفة في الصحراء.

- لقد فرّ اللصوص في النهاية من بين أيدينا كالأغنام. فاسترحنا من تعب المعركة ليلة, ثم أكملنا طريقنا في صباح اليوم التالي.

(ما ألذّ الراحة بعد التعب, يا أولادي).

بهذه الكلمات, تابع (أبو شعلان) حديثه من جديد, بعد وصف بطولاته لأحفاده, وكأنه ينفض عن كفيه وثيابه غبار المعارك: لاذ اللصوص بالفرار في الصحراء (قال الجد مبتهجاً)... وأكملنا نحن طريقنا حتى وصلنا إلى تلة اعتقدنا أنها التلة المقصودة. كان قد مضى على رحلتنا ثلاثة أيام بلياليها حين أشرفنا من قمة تلك التلّة على الوادي, ونزلنا مسرعين, وكأنّ صوتاً في داخل كل منا يصيح به: هناك في أسفل الوادي يختبئ كنزكم الموعود. لم يكن يُسمع في صمت المكان, إلا ضربات المعول, بدأنا نحفر في الأرض, وتخيّلنا كأن لمعان الجواهر والدرر, يكاد يخترق الرمل, ويصل إلى عيوننا, وبينما كانت حبّات العرق تتلألأ على الجباه, والأيدي تعلو وتهبط بقوّة, سمعنا صوتا غريبا يخرج من باطن الأرض, وشعرنا كأن الرمال تتحرك من تحتنا, ورأينا بخاراً قوياً يتصاعد من الحفرة, فوجئنا. تساءلنا: ترى ما الذي ينتظرنا?

وعندما أدركنا ما نشاهد أمام أعيننا, تملكنا الذهول, وأخذنا نرقص ونركض يمينا وشمالا ونصرخ بأعلى أصواتنا, وأخذنا من الماء بين أكفّنا وشربنا وصببنا على وجوهنا وثيابنا, لقد كان ماء عذبا سلسبيلا, فشكرنا الله على هذه المفاجأة, التي هي حقا أهمّ من الجواهر.

ظهر النبع أمامنا وهو يلمع كأنه قطع من الضوء, والماء يتفجر على شكل نافورة صاعدة في الهواء, ثم يهبط رويداً رويداً ليأخذ شكل نبع صاف, غزير المياه. هذا هو الكنز الذي وصلنا إليه يا أولادي.

قالت (بدور) بدهشة: وهل نبع الماء شبيه بالكنز يا جدي?

قال (أبو شعلان): أجل يا صغيرتي... أجل. الماء هو أثمن كنز أعطاه الله للإنسان. إنه يروي به عطشه, ويسقي الأرض فينبت منها الأشجار والزرع, ويصنع من غلالها صناعات مختلفة. {وجعلنا من الماء كل شيء حيّ} هكذا يقول الله في كتابه العزيز.

وأكمل (أبو شعلان) حكايته الجميلة قائلا وهو يغالب النعاس الذي بدأ يدبّ في أجفانه:

- حين وجدنا هذا النبع في الصحراء, قررنا أن نقيم قربه, وزرعنا الأرض وسقيناها منه, فأنبتت النباتات الطيبة, والأشجار المثمرة.

قال (مروان) مقاطعاً: ولكنك لم تخبرنا يا جدي عن الرجال الذين كانوا يبحثون عن الكنز مثلكم. ماذا كان مصيرهم?

قال الجد: نعم. هؤلاء الرجال وصلوا بقافلتهم إلى حيث كنا أقمنا مضاربنا, عند نبع الماء, ووجدوا أننا نعيش حياة طيبة, ففرحوا بنا, وأخبرونا بأن هذا الكنز هو الذي كانوا يقصدون البحث عنه, فرحبت بهم, ودعوتهم للبقاء, بجيرتنا, إذا أرادوا, لنعمّر معاً قرية المستقبل.

وهكذا تكوّنت هذه القرية في الصحراء, يا أولادي.

 


 

محمد علي شمس الدين