قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

ابن حزم الأندلسي

الأفكار الجميلة... لا تموت

إنه صبي غريب, يثير الدهشة.

لا يتوقف عن البحث والتفتيش فيما يدور حوله. كثيراً ما يطرح الأسئلة, ويبحث عن أجوبة, والكلمات التي يرددها دوماً هي:

(لماذا?.. أين?.. كيف?)

لذا كان (الحافظ) يثير التساؤل من حوله.

وكم غضب منه أساتذة له, لكثرة الأسئلة التي كان يلقي بها في (الكُتّاب) وكان هناك أستاذ واحد قال له:

- اسمع يا بني, نحن الآن في العام 1000 الميلادي, أي في بداية القرن الحادي عشر, سوف يكون لك شأن كبير في الألفية الثانية... هل تعرف لماذا?

بدا التساؤل على وجه الصغير الذي لم يتعد السادسة من العمر, والمولود عام 994 ميلادية في قرطبة بالأندلس (إسبانيا الآن), قال الأستاذ:

- لأنك تفكر.. ودائم التفكير.

ومنذ ذلك اليوم, أطلق الأطفال على (الحافظ) اسم (أبو الأفكار) .كان أشبه بشعلة تتحرك, لا تتوقف عن التفكير, وقال يوما وهو في التاسعة من العمر, لأبيه علي بن أحمد بن سعيد بن حزم:

- لماذا أكون مثل الآخرين يا أبي? أنا حالة متفردة.

هذه الكلمات, جعلت الأب في حالة قلق, فهذا يعني أن ابنه سوف يواجه الكثير من المصاعب.

قال له:

- ليكن الله في عونك يا بني.. فالباحث عن الحقيقة ليس شخصاً عادياً.

ولم يتوقف الصغير, الذي عرف باسم (ابن حزم الأندلسي) عن التفكير, الذي هداه الى البحث عن الحقيقة.

في سن الثالثة عشرة, قال لأبيه:

- أبي.. لقد اكتشفت أن المعرفة تتواصل فيما بينها, وأن القرآن الكريم يدعو إلى العلم واتساع الأفق.

وفي هذا اليوم وضع الصبي خطة طويلة الأمد للقراءة, وتحصيل كل العلوم, والمعارف.

كان قد حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب, وراجع الكثير من كتب السنة الشريفة, وبدأت رحلته الطويلة في بحور العلوم الواسعة, قرأ في علوم الفلك, والفلسفة, والتاريخ, والكيمياء, والفنون... والطب.

وما إن توغل في أروقة المعارف الإنسانية بالغة الاتساع, حتى قال ذات يوم, وقد صار شابا وسيما, بليغا, في جمع من الناس.

- معذرة... التنجيم ليس علما.

وصدمت كلماته الحاضرين, فالكثيرون يرون أن التنجيم علم, وأن هناك أشخاصا لديهم المهارات في معرفة المصائر من خلال قدرتهم على التنجيم, لكنه قال:

- لا...لا يعلم الغيب سوى الله عز وجل.

وراح يشرح الفرق الواضح بين التنجيم, ومعرفة مصائر الناس, وبين (الفلك) العلم الذي يعتمد على مركز النجوم والكواكب, وان هذه الحركة تتم وفق نظام محدد, لا يتغير.

وبدأت معركته الكبرى في استبعاد التنجيم عن العلوم.

وأقيمت ضده حرب لم تنته, من المشتغلين بالتنجيم, لكنه لم يهدأ, كما ان الحرب لم تتوقف وبدأ في تأليف كتابه الشهير (الفصل في الملل والاهواء والنحل).

وقال في كتابه: (زعم قوم بأن النجوم تعقل, وانها ترى وتسمع... وهذه دعوى بلا برهان. وصحة الحكم أن النجوم لا تعقل أصلا).

وفي كتابه راح يرد على البدع, والخرافات التي أطلقها البعض ممن ادعوا أشياء غير حقيقية, وفي احدى خطبة العلمية, قال:

- اسمحوا لي أيها المؤمنون أن أحدثكم عن منابع الأنهار.. يقول البعض إنها تنبع من الجنة, لكن العلم أكد ان لكل نهر من أنهارنا الكبرى منبعه المعروف.

وراح.. ابن حزم الأندلسي.. يقدم برهانه, وجادل علماء الجغرافيا, وسكت المعارضون أمام تلك البراهين.

وأحس العالم العربي الكبير بأهمية التجربة, من أجل البحث عن الحقيقة.. وبدا كأنه يسبق كل علماء العصور المختلفة في إثبات ان العلم التجريبي هو أقصر طريق للمعرفة الصحيحة, وأقام نظريته, من خلال البحث عن إجابات للأسئلة التالية:

1 - كيف نعرف الأشياء?

2 - ماذا نعرف عن الأشياء?

3 - ما الدليل على صحة المعرفة?

العالم الذي يطرح الأسئلة, يبحث عن الإجابة, ولن يهدأ له بال بالمرة, إلا إذا عثر على إجابات مقنعة. وفي الأندلس كانت المنافسة الحادة بين العلماء, من أجل أن يسهم كل منهم بدلوه في التوصل إلى الحقيقة.

وذات يوم, عقد العلماء لقاءهم السنوي (مؤتمراً), وراحو يستمعون إلى أهم محاضرة ألقيت في تلك السنوات, وجاء (ابن حزم الأندلسي) حاملاً أوراقه, وقال:

- أيها العلماء الأفاضل, عندما يكون المرء منا في مجلس علم, فإنه يجب أن يستمع, قبل أن يتكلم, وقبل أن استمع إلى آرائكم, دعوني أحدثكم عن نظريتي في (المعرفة).

وبدت بلاغته فيما راح يردده, وقال إن المعرفة تتم عن طريق ثلاث خطوات:

1 - بشهادة الحواس الخمس, حيث يجب التعرف على الكون من خلال ما نراه فيه, وما تلمسه الأيدي, وتسمعه الأذن, وتشمه الأنوف, ويتذوقه اللسان.

2 - باستخدام العقل, عندما تعجز الحواس عن التوصل إلى الحقيقة.

3 - بالبرهان, عند استخدام الحواس, والعقل.

وصفق الحاضرون في الاجتماع, والتفوا حوله, وبكل تواضع قال:

- على العالم أن يتفرغ للمعرفة, وأن يخلص لها أبداً.

وتفرغ (ابن حزم الأندلسي) لمؤلفاته, وكتب العديد من الرسائل وجاءت هذه الكتب سهلة القراءة, يفهمها الصغار والكبار معا, مشحونة بالعلم الغزير, والرؤية الصادقة, ولم يتوقف الرجل عن التحصيل والعطاء حتى بلغ السبعين, وقال قبل أن توافيه المنية لحفيده الصغير الكامل:

- الناس يموتون... لكن أفكارهم المفيدة تبقى إلى الأبد.

 


 

محمود قاسم