بائع التحف في أم درمان
بائع التحف في أم درمان
اسمي حمد النيل, أسكن في مدينة أم درمان.. هل تعرفون ما هي أم درمان؟ سأحكي لكم عنها بعد أن أعرفكم بنفسي. عمري 12 سنة, أذهب إلى المدرسة وأعود بعد الظهر, ألعب مع أصدقائي, وأستذكر دروسي, وأعيش حياة عادية طيلة أيام الأسبوع ما عدا يومي الخميس والجمعة. في هذين اليومين أخرج مبكراً, واشترى التحف من صانعيها, راكبـــاً جملي الذي يحملني لمسافات طويلة, وأعود محملاً بالتحف, ثم أذهب إلى سوق أم درمان لأبيعها للزوار ومرتادي السوق, أسير في الأزقة والشوارع المحيطة به حاملاً في يديّ بعض تلك التحف, تماثيل صغيرة لأفيال وعصافير وتماسيح وزرافات برقاب طويلات مرقشة. بعضها مصنوع من خشب الأبنوس, وبعضها من عاج يصنعه الصيادون من ناب الفيل. هكذا أعمل في الأسبوع الواحد يومين, أتمكن خلالهما من كسب بعض النقود التي تساعدني على شراء ما أحتاج إليه من أدوات مدرسية, وقليل من الألعاب. أنا أحب مدرستي كثيراً, وأحب مهنتي البسيطة كذلك, المدرسة تعلّمني والعمل يساعدني على مواصلة التعلم, وأنا لا أرى تناقضا في ذلك, بل وأشبه ذلك الحب الذي أشعر به نحوهما, بحب كل السودانيين لنهريّ النيل الأزرق والنيل الأبيض, فكلاهما يمرّان في بلدي, ويلتقيان في عاصمتها الخرطوم, ولا أجد أحدا من أهل بلدي يقول إنه يحب نهرا أكثر من الآخر. حياتنا هكذا نتعايش مع شيئين, يتفقان ويتشابهان ونتعايش أيضاً معهما, تعوّدنا أن نعايش موسم الأمطار والموسم الحار, ونعتاد على الجفاف ونعايش الفيضان, ونسكن في المدن أحياناً وفي القرى النائية, ونغمر وجوهنا في مياه النيلين ونعاني من الجفاف, ونفرح بالأرض حين تخضر, ونعاتبها حين تتحول إلى صحراء جرداء. المدينة العريقة لذلك أنا لا أشعر بألم وأنا أجوب الشوارع المتصلة بسوق أم درمان لأبيع التحف في الشتاء القارس أو موسم الأمطار الغزيرة, فأنا سعيد بعملي, تماماً كسعادتي بالعيش في أم درمان, وهي واحدة من أقدم مدن السودان التي شهدت أهم أحداث التاريخ السوداني, وهي واحدة من ثلاث مدن تضمها عاصمة السودان التي يطلق عليها العاصمة المثلثة والتي تتكون من الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان. في أم درمان - إذا قررت يا صديقي زيارتها في يوم ما - سوف تستنشق رائحة التاريخ أينما مررت, خاصة بعد أن تهبط من فوق أحد الجسور التي تربط الخرطوم بأم درمان, عندئذ ستجد نفسك وقد دخلت إلى عمق الأزقة والحارات, وحين تزور المعالم القديمة فيها ستجد أنك في حاجة إلى معرفة تاريخ هذه المدينة التي تزيّنها قبة الإمام المهدي الذي قاتل الإنجليز المستعمرين بلونها الفضي, وبيت الخليفة عبدالله التعايشي الذي حمل الراية بعد سقوط الإمام المهدي. وفي هذا البيت الأثري الذي تحول الآن إلى متحف سوف تشاهد نماذج للعربات المستخدمة في القتال والأدوات الحربية القديمة, وبعض الأدوات الخاصة بالحاكم. وقريب من هذا البيت توجد الطابية القديمة وهي عبارة عن بناء على شاطئ النيل ذي فتحات صغيرة كان يقاتل منها جنود الخليفة الغزاة القادمين عبر النهر لدخول البلاد واحتلالها, وبعد هذا المكان بمسافة قصيرة مازالت أجزاء من بوابة عبدالقيوم الأثرية باقية, وهي بوابة كانت جزءاً من السور الذي كان يلف مدينة أم درمان ويحميها في الأزمنة الغابرة من اللصوص والأعداء. وتضم مديني هذه خليطا من البشر من مختلف قبائل السودان, ويمكن للمرء فيها أن يجد كل الأشكال والأجناس, ويستمع فيها إلى معظم اللهجات التي تنتشر في بلادي, إنها سودان صغير أو نموذج شامل للسودان الكبير, تماماً كما أن السودان هو نموذج لقارة أفريقيا بكاملها. أشكال ولهجات في السودان توجد أكثر من 500 قبيلة, ويتكلم سكانه ما يزيد على 450 لهجة, في الوقت الذي تترامى فيه مساحته على امتداد مليونين ونصف المليون كيلومتر مربع, وتنقسم أراضيه بين 26 ولاية, لكل ولاية (وال) وحكومة مصغّرة لإدارتها, والسودان بأراضيه الهائلة يعد الدولة الأكبر من حيث الحجم على مستوى الدول العربية وكذلك قارة أفريقيا. وتضم بلادي أكبر مساحة من الأراضي الخصبة في الوطن العربي, وهي بالفعل كما يطلق عليها تعد (سلة غذاء العرب), يساعدها على ذلك مياه الأنهار السبعة التي تضمها, والتي من بينها مياه النيلين العظيمين الأزرق والأبيض, إضافة إلى الأمطار الموسمية الغزيرة التي تشهدها مختلف مناطق السودان اعتباراً من شهر مايو من كل عام. وأتاحت وفرة المياه المستخدمة في الزراعة, فرصة جيدة لتربية الماشية التي تعيش على الأعلاف النباتية الخضراء, بحيث أصبحت بلادي تمتلك أعداداً هائلة من رءوس الماشية والأغنام والإبل, في الوقت الذي يضم السودان كذلك عدداً كبيراً من الغابات تعيش فيها العديد من أنواع الحيوانات البرية والطيور, وتضم بعض المناطق حدائق مفتوحة للحيوانات الشرسة, تسمى (السفاري) وهي مناطق يرتادها محبو مشاهدة الحيوانات المفترسة على الطبيعة, ولكن - بالطبع - داخل سيارات محصّنة وقادرة على حماية ركابها من هجمات تلك الحيوانات. مناخ السودان الذي يختلف من منطقة إلى أخرى ووفرة المياه فيه, دفعا الأهالي في معظمهم إلى العمل في مهنتين: الزراعة أو الرعي, ومع أن الجامعات انتشرت بشكل كبير في معظم ولايات السودان, إلا أن هاتين المهنتين اللتين ورثهما السكان عن الأجداد القدامى, ظلتا هما السائدتين على ما عداهما من مهن. السودان - كما قلت - بلد كبير للغاية, والحديث عن مدنه الشهيرة لا ينتهي, كما لا ينتهي الحديث عن رقصاته الشعبية المتعددة ولا عن أزياء كل منطقة بل وكل قبيلة, أو حتى عن الوشم الذي يبدو على كثير من الوجوه والذي تختلف أشكاله وفقا لكل قبيلة. ولكن ذلك كله يمكن أن يراه الزائر في أم درمان فهي مكان يجتمع فيه كل هؤلاء ويتعايشون ويعملون ويتعارفون وقد علّمتني مهنتي التي أمارسها طريقة التعامل مع كل أنواع البشر, وأن أتحدث بمختلف اللهجات, لذلك أنا سعيد بهذه المهنة, ليس فقط لأنني أكسب منها مالاً يساعدني ويغطي جزءاً من احتياجاتي ولكن لأنها جعلتني أتعرف على بلدي المترامي الأطراف, وكذلك على سكانه دون أن أزور تلك المناطق... فهل تريدون معرفة كل مناطق السودان, إذن تعالوا وزوروا أم درمان.
|