قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

البيروني
هدية... بالغة الغرابة

قال له جده:

- يا صغيري... المكان الذي ولدت فيه ليس هو مركز الكون... ولا هو حصاد الدنيا ... العالم واسع..

تساءل الصغير (أبو الريحان):

- إلى أي مدى هو واسع... يا جدي....؟

رد الجد الذي عرف بحكمته: بقدر ما يتجول الانسان فيه...

كان الصغير آنذاك في العاشرة من عمره. في عام 361 هجرية (973 ميلادية) حيث يقيم في إحدى مدن خوارزم الصغيرة لذا ظل يحلم بالسفر... وذات يوم جهز عدته للسفر... وانطلق بلا توقف...

سافر إلى المدن العربية والتقى بالعالم الكبير (ابن سينا) وقال له:

- سيدي... الشيخ الرئيس... أخبرني جدي أن أسافر... لكنني لم أعرف بعد فوائد السفر...

ضحك العالم العربي الكبير وقال:

- هل تتخذ مني قدوة؟ لقد سافرت إلى البلاد وأبحرت فوق سفن العلم... سفينة الفلك وسفينة الطب وسفينة الرياضيات.

وعرف أبو الريحان محمد بن أحمد باسم (الفلكي) لشغفه الشديد بعلوم الفلك وأطلق عليه الناس اسم (البيروني) وقال يوما عندما عاد لملاقاة (ابن سينا):

- شكرا سيدي الشيخ... تعلمت الدرس جيداً وفهمت...

وراح يشرح له أنه فهم لماذا أحب العرب علم الفلك? فهو علم لا يبدع فيه سوى المتفوقين في علوم الرياضيات, خاصة الجبر والحساب والهندسة, فعن طريق هذه العلوم يمكن للمرء تحديد مسارات النجوم وأماكنها في الكون.

وعرف (البيروني) أن الهنود برعوا في علوم الفلك أيضاً وقرر أن يركب ناقته, وأن يتجه إلى هناك...

التعلم في الهند

وعاش (البيروني) في الهند مدة طويلة وأحس أنه أمام شعب ثري.. بأساطيره وحكاياته ولغاته الكثيرة, ودياناته وعاداته وأزياء الناس الجذّابة.

في تلك السنوات من القرن الحادي عشر الميلادي (أي منذ عشرة قرون) كان الإسلام قد دخل بكل قوة إلى تلك المنطقة المعروفة الآن باسم باكستان وبعض الولايات الهندية لذا ظل (البيروني) يدرس الناس وعاداتهم, إلى أن انتهى من تأليف كتاب ضخم عن رحلته أطلق عليه اسما غريبا:

(ما للهند من مقولة. مقبولة في العقل أو مرذولة).

وذاع صيت الكتاب لكن (البيروني) لم يشغله نجاح الكتاب عن الإعداد لبحث آخر في علم الفلك وهو يردد:

- لو توقف المؤلف عند كتاب واحد... فهو مثل الرحالة الذي يتوقف عند أول مدينة يسافر إليها..

وانغمس في التأليف والكتابة...

وجاءته رسالة رائعة من أستاذه الذي ابتعد عنه سنوات (ابن سينا) يقول فيها:

(تلميذي العزيز... لماذا توقفت عن الرحيل... وطال بك المقام في الهند؟)

وهنا قرر (البيروني) أن يتجه إلى بلاد فارس... وعكف على تأليف المزيد من الكتب, خاصة في علم الفلك واندهش العلماء والشباب من هذا الفيض الكبير من المعرفة الذي تضمنه كتاب (القانون المسعودي في الهيئة والنجوم)...

وذات يوم طرق بابه عالم شاب سأله:

- أنت أبو حامد البيروني... أنا باحث في معرفة الفلك وعلومه...

وحكى (البيروني) لتلميذه الشاب كيف يعمل ويستقي المعرفة, قال:

- أول شيء يجب على العالم أن يفعله هو أن يلاحظ الظاهرة, مثلا حركة نجم من النجوم في السماء, كيف يسير, وعلاقته بالنجوم الأخرى, ثم يقرأ عن هذه الظواهر بتعمق, يلم كل ما يمكنه التوصل إليه من معلومات.

وفهم الشاب الكثير من أستاذه الذي بدأ في التتلمذ عليه, فالبيروني يبني أبحاثه على الملاحظة والتجربة والبرهان, إنها أضلاع مثلث متكامل, لا يمكن لعالم جاد أن يتوصل إلى مكانة مرموقة دون استخدام الأسلوب العلمي.

وعرف الشاب (جويدان) أن البيروني تفوق على أقرانه من العلماء بتعدد مصادره التي جاء بها من كل رحلاته حول الدنيا... لذا قال:

- سوف أرحل... يا سيدي (البيروني).. من الغد ستأخذني البلاد...والمدن...

قال الأستاذ لتلميذه:

- أجمل ما في الرحيل هو التأمل.. تأمل كل ما حولك... تأمل الناس وطباعهم.. وارفع رأسك إلى السماء, وتأمل النجوم, والأفلاك, ولا تتوقف عن التخيل, إياك أن تتصور يوماً أنك وصلت إلى الهدف, واجعل من كل هدف نقطة تقفز منها إلى هدف آخر.

وأضاف:

- القراءة والتحصيل والاستيعاب أشياء مهمة, لكن اجعلها ركيزة لأن تصبح عالماً بارزاً تعطي للبشرية مثلما أخذت من أساتذتك...

كان (جويدان) قد تصوّر أنه بقراءة كتب أستاذه (البيروني) وحده قد نجح في بلوغ درجات العالم المتبحر.

فالبيروني نموذج حقيقي لاستيعاب معارف العصر, فهو صاحب نظرية في ضغط السوائل وتوازنها, كما تمكن في إحدى نظرياته الفلكية من قياس نصف قطر الكرة الأرضية, لكن هاهو يخبر تلميذه أن بحور العلم واسعة.

وفي الليل, جهز حقيبته للسفر, وقال:

- سيدي, لا أود أن أتركك, أشعر كأنني القمر, يقتبس ضوءه من الشمس, ابتسم (البيروني), وقال:

هذه نظرية علمية, وليست عبارة بليغة, سوف أبحث فيها, وأثبتها, وزادت دهشة الشاب, وقال ضاحكاً:

- يا إلهي, أنت تحول كل شيء إلى منبع لاكتشاف علمي جديد...

هنا مد (البيروني) بمخطوط إلى تلميذه, وقال:

- هذه هديتي لك.. اقرأها... وتعلم منها..

ردد الشاب في دهشة: إنه كتاب جديد, لك..

عرف أنها نسخة من أحدث مؤلفات أستاذه, طلب منه (البيروني) أن يقرأها أثناء رحلته, إنه كتاب (الجماهر في معرفة الجواهر)... عن المعادن...

وكان الوداع حارا بين التلميذ والأستاذ, وراح الشاب يضم الكتاب إلى صدره كأنه قرر أن يحفظه عن ظهر قلب.

 


 

محمود قاسم