الجُلَّنَــار

الجُلَّنَــار

عند جدي فونوغراف قديم, وشجرة رمان كبيرة. يأتي الربيع, ويفتح جدي شباكه بعد طول إغلاق, ويحدق في أزهار الرمان الحمراء الجميلة, ويدير الأسطوانة فوق الفونوغراف, وينساب من بوقه الذي يشبه زهرة الرمان, صوت عذب رقيق, أشعر أنه آت من زمن بعيد: (سبحان من طرّز الياسمين في خديك بالجلنار). يطرب جدي, ويقول: سبحانه! ويتمايل من نشوته, ويردد: الله يا ست أم كلثوم!

كنت أعجب لجدي, لا يفرح كل هذه الفرحة, ولا يسمع هذه الأسطوانة القديمة, إلا في هذا الوقت من السنة, موسم تفتح أزهار الرمان.

حفظت مطلع الأغنية لكثرة ما سمعته, وحاولت لأول مرة أن أفهم معناه, لأعرف لماذا يعشق جدي تلك الأغنية. فكرت طويلا في كلمة الجلنار, فلم أعلم علام تدل? سألت جدي فأجابني:

- الجلنار هو زهر الرمان.

فرحت, وظننت أنني بلغت ما أريد, وإذا بكلمات أخرى تحيرني, على الرغم من علمي بمعناها. فالأغنية تقول: (طرز الياسمين في خديك بالجلنار), وأنا أعلم أن التطريز يعني تزيين الثياب بالخيوط الملونة, فكيف طُرز زهر الياسمين بزهر في هذين الخدين?

أسرعت لجدي أسأله, فأجابني:

- كلمات الشعر لا تدل أحيانا على معانيها الحقيقية القريبة من عقولنا, والمألوفة في كلامنا المعتاد, فالشاعر يرسم بالكلمات صوراً جديدة من خياله, تثير دهشتنا وتسرنا, فتصير النجوم لآلئ تلمع في السماء, ويتحول ضياء الشمس خيوطا من الذهب, وهذا الخيال المنطلق, مع الإيقاع الجميل, سر روعة الشعر وسموه.

قلت لجدي في سعادة:

- عرفت الآن.. مطلع الأغنية يصف خدين بأن لهما بياض زهر الياسمين, تخالطه حمرة الجلنار.

ابتسم جدي وقال:

- لون طبيعي من صنع الخالق سبحانه وتعالى لخدين تفوح منهما رائحة الزهور العطرة, في وجه أنعم الله عليه بالصبا والنضارة والجمال.

عاودتني حيرتي, وسألت جدي:

- ما المقصود? أهو اللون أو الرائحة أو الجمال والصبا?!

أجاب جدي وهو يتطلع إلى سرب من الطير يحلق بعيداً في السماء:

- معاني الشعر طيور طليقة في دنيا الخيال, فلا تحبسها في قفص المعنى الواحد!

صحت من دهشتي:

- أيمكن أن تكون هناك معانٍ أخرى?!

أجابني جدي:

- ولم لا? ستجد لدى كل مستمع جديد معنى جديداً, وهذا سر آخر من أسرار الفن الجميل!

قلت له:

- إذن أنت تحب هذه الأغنية, لإعجابك بمعانيها الرائعة, ولحنها الجميل, وعذوبة صوت من تغنيها.

ابتسم جدي:

- نعم.. أحبها لكل ذلك ولغير ذلك!

شعر جدي بحيرتي الشديدة, فقال وهو يمسح على شعري في حنان:

- هب أن سنوات طوالاً مضت, وسمعت هذه الأغنية ذات يوم, بماذا ستذكرك?

أجبت على الفور:

- بك يا جدي, وبالربيع, وبشجرة الرمان, والجلنار, والفونوغراف, والأسطوانة.. وأشياء أخرى كثيرة.

هز جدي رأسه في رضا, وسألته:

- وأنت بماذا تذكرك?

أطرق جدي, وأدار الأسطوانة من جديد, ومضى للشباك في صمت, ورأيت عينيه الحائرتين تنتقلان بين زهر الرمان, والشمس الحمراء الغاربة, وكأنه يبحث عن شيء ضائع!

 

 


 

حسن صبري