مشاهير كتبوا للأطفال

مشاهير كتبوا للأطفال

تُعد حياة هانز كريستيان أندرسون كأنها خرافية كقصصه ورواياته.

فقد ولد هذا الكاتب لعائلة فقيرة بل ومدقعة الفقر, فأبوه كان إسكافياً (أي يصلح اهتراء الأحذية) وأمه كانت تعمل غاسلة لثياب الأغنياء, لكنه في آخر حياته وفق بأن يعيش في قصور الأغنياء ومقرّباً من عائلات الأمراء والملوك, وكل هذا حصل بحكم اجتهاده ودأبه الشخصي.

ولد في مدينة أودنس الدانمركية عام 1805 ولكن والده دفعه منذ طفولته لتعلم القراءة والكتابة مما دفعه لحب الأدب والمسرح.

حتى أنه في عامه الرابع عشر ترك عائلته مهاجراً لمدينة كوبنهاغن عاصمة الدانمرك, حيث سعى بكل جهده ليلتحق بفرقة مسرحية كهاو ومبتدئ ومتدرج ليصبح بعد أوان ممثلاً ومغنياً, لكن ليس بالمستوى المطلوب مما دفعه ليتحول إلى الأدب فأصدر أولى رواياته (محاولات شابة) عام 1822 التي لم تلق أي تجاوب من الناس, حيث بيعت في آخر المطاف إلى دكان بائع يلف بها السلع.

لكنه لم ييأس, فقرر أن يطوف في أوربا ليستفيد من ثقافات الشعوب وتجاربها وليصدر روايته الثانية (الخلاّق) عام 1835 التي سجلت نجاحاً مذهلاً, مما شجعه على أن يصدر بالعام نفسه (خُرافيات تحكى للأطفال) أخذ الناس يتعرفون عليها قليلاً قليلاً, لدرجة أنه اكتفى بأن يكون اختصاصه هذا النوع من الأدب الذي أصدر منه مجموعات عدة.

ثم استطاع لاحقاً أن يقيم بما يشبه المسرح للأطفال يأتون إليه مع ذويهم ليمثل لهم الحكايا والخرافات التي يكتبها لهم. مما جعل كبرى العائلات الأوربية تطلبه ليأتي إلى بيوتهم وقصورهم ليثقف ويمتع أطفالهم حتى أصبح مشهوراً وناجحاً ومن ثم ثرياً ليعوّض كل النقص الذي عاناه مع عائلته حين كان طفلاً يعاني الفقر والفاقة.

هاكم قصتان له:

ثياب الإمبراطور

يُحكى أن امبراطوراً كان مولعاً بالثياب الجميلة والمنمقة, ويقال إن خزائنه إلى جانب المال كانت ملأى بأكداس السراويل والمعاطف والقمصان والعباءات الفخمة والمزركشة والمقصبة, لدرجة أنه كان يغير ثيابه كل ساعة ليبدو أنيقاً كطاووس وفي أحلى الحلل.

ولما كان صيته منتشراً في الأرجاء بهذه الخصلة, قصده اثنان من المحتالين ذوي الطاقات العليا في الخداع والغش, وقالا له إنهما حياكان من الدرجة الأولى, وأنهما أبدعا نوعاً جديداً من الأزياء لم تره عين من قبل, ولم يلبسه أحد بعد, وهو خاص للملوك فقط.

ولما سأل الإمبراطور مستفسراً عن نوعية هذه الأزياء, قالا له إنها فعلاً ساحرة وسحرية وأنهما حين قالا له إنها لا تراها عين كانا جدّيين لأنه لا يراها بالعين المجردة إلا الأغبياء والكاذبون الذين يدّعون الإخلاص في عملهم.

أخذت الإمبراطور النشوة والدهشة والرغبة في اقتناء مثل هذه الأزياء الساحرة والسحرية والتي لم ترها عين من قبل, فأحال هذين الرجلين إلى مشاغل ثيابه في القصر وطلب منهما التفرّغ لصنع وحياكة مثل هذه الثياب ومنحهما الكثير من المال, خاصة أنه بعد أسبوع سيكون ذكرى يوم تنصيبه وهي مناسبة هائلة وضخمة يستعرض خلالها شعبه ويخطب فيهم, فالمناسبة المهمة تتطلب ثياباً مغايرة وباذخة الثمن والأهمية.

وبالفعل مكث الرجلان في ضيافة الإمبراطور يدّعيان العمل ويذهبان ويجيئان كأنهما مستغرقان في مهمتهما الخارقة في حين أنهما في الحقيقة لم يكونا يفعلان شيئاً.

بعد أربعة أيام, أراد الإمبراطور بدافع الحشرية أن يستطلع حقيقة هذه الثياب التي يصفها هذان المبدعان كما أسميا نفسيهما, فأرسل وزيره الأول للاستطلاع والاكتشاف.

رحّب الرجلان بالوزير الأول أشد ترحيب ثم أخذاه إلى النول الذي يحيكان عليه وقالا له: انظر وشاهد هذه المنسوجات الساحرة وهذه الألوان القزحية المدهشة والتي تخلب الألباب, انظر إلى هذه المزاوجة الرائعة ما بين التصاميم والأشكال المبتكرة.

لكن لدهشة الوزير الأول لم ير شيئاً, بل كان هناك آلة نسيج فارغة وهما يدّعيان أنهما يعملان عليها, لكنه صمت صاغراً وسكت خوفاً من أن يوصم بأنه غبي, وأنه كاذب يدّعي الإخلاص في عمله لسيده الإمبراطور, حيث قال هذان الرجلان سابقاً إن الذي لا يرى هذه الثياب ما هو إلا غبي أو كاذب.

فوافق على ما يقولان وأثنى على ذوقهما الرفيع بما يصنعان, وعاد إلى الإمبراطور يمدح صنيع هذين الرجلين ويطري على مهمتهما الرائعة.

وبعد يومين ظلت رغبة الاستطلاع وحب التطفل تدفع الإمبراطور لاكتشاف حقيقة هذه الثياب, لذلك أرسل وزيره الثاني للتأكد فعلاً من سلامة ذوق هذين الرجلين وهل فعلاً ما يفعلانه شيء خارق?

ذهب الوزير الثاني واستطلع وهيمنت عليه الدهشة نفسها والمشاعر نفسها, والخوف من أن يُتهم بالغباء والكذب, وعاد إلى الإمبراطور وهو يكيل المديح والثناء لعمل هذين المُبدعين.

إلى أن أتى موعد المناسبة الهائلة لحفل التنصيب فقصد الإمبراطور بنفسه مشغل النسيج وصناعة الأزياء مبكرّاً ومُرافقاً بحشد من الوزراء والاعيان والمستشارين ودخل الجمع على الرجلين, اللذين رحّبا أشد ترحيب بالإمبراطور وجثيا مكبرين وصوله, وشكرا ثقته العالية والغالية تجاههما ومدحا فطنته لأنه وصل تماماً في الوقت المناسب لكون الأزياء قد جهّزت تماماً قبل وصوله بلحظات, ثم أشارا إلى الإمبراطور بكل احترام إلى أن الثياب ما هي إلا على هذه الطاولة.

نظر الإمبراطور ملياً إلى الطاولة فلم ير شيئاً وفغر فمه يريد النطق والتكلم لكنه فطن إلى ما سبق أن قاله هذان الرجلان من أن الذي لا يرى هذه الثياب هم الأغبياء والكذابون, فتنحنح وصمت متراجعاً واقر بأن الثياب إنما هي غاية في الإبداع والرقي, عندها ردد كل الحضور هذه المقولة وأثنوا على ذوق الامبراطور وحسن اختياره المتواصل لثيابه وأناقته.

وبالفعل طلب الرجلان من الإمبراطور خلع ملابسه التي يضعها عليه ليلبس الثياب الجديدة, فأطاع بكل طيبة خاطر, وخرج من عندهما مع الحشر الذي يرافقه مرتديا لباسه الداخلي فقط, وهو في ظنه بأنه يرتدي أحلى الحلل.

سار موكب العرض أمام الجماهير والإمبراطور يتوسطه والجماهير مصعوقة ومندهشة مما ترى... الإمبراطور يسير عارياً!! لكن لا أحد يستطيع أن يتفوّه بأي كلمة خاصة أنهم سمعوا بحكاية الحياكين ومهارتهما , فعقد الخوف ألسنتهم وظلوا صامتين.

إلى أن مر الإمبراطور من أمام فتاة صغيرة لم تتجاوز السادسة من عمرها, عندما صرخت الفتاة: (الإمبراطور يسير عارياً... الإمبراطور يسير عارياً) عندها انطلقت الجماهير بأثر الفتاة الصغيرة قائلة: (الإمبراطور يسير عاريّاً), عندها فقط تحقق الإمبراطور من أن كذبة كبرى قد انطلت عليه وعلى كل رجاله الجبناء وحاشيته, فهرع إلى قصره ليلبس ثيابه التي يحبها, ومن ثم ليعتقل الرجلين ويزجهما في السجن المؤبد, وطلب رؤية الفتاة الصغيرة التي منحها الكثير من المال لها ولأهلها وأثنى على جُرأتها قائلاً: الأطفال فقط يتكلمون الحقيقة لأنهم أبرياء ولا يخافون.

رضى الجدات

كانت ليلة باردة والصقيع يلف الأرجاء, وكانت الفتاة ذات الحادية عشر ربيعاً ترتجف بشكل دائم.

أثوابها رقيقة وقديمة وبالكاد تقي جسدها من قسوة البرد, تلبس بقدميها حذاء والدها القديم والكبير, الذي هو أكبر من حجم قدميها لتبدو فردتا الحذاء كأنهما قاربا مطاط يخبان في ماء الشتاء القارس.

إنها تبيع علب الثقاب وقد أعياها التعب فلم توفق في البيع الكثير هذا اليوم, وها قد خيّم الظلام وهي تأبى العودة إلى بيتها قبل أن تبيع علباً أُخر تكفي لجلب القليل من القروش علّها تكفي لشراء غذائها لهذا المساء, فوالدها حمّال أمتعة يجوب الشوارع ويعاني الأمرين ليتمكن من تأمين بعض الغذاء لها ولامها المقعدة.

تُنادي على بضاعتها بصوتها الرفيع الخفيض المليء بالشجن: (علب الكبريت.. لاشعال نيرانكم في هذا المساء البارد)... (جودوا عليّ ببعض دراهمكم لعلكم ترزقون).

لكن صوتها الضعيف يكاد يُسمع في مدى الظلمة ولا من مجيب في هذه الأزقّة... فالبرد أخلى الطرقات من المارة, إلى أن تهالكت فقعدت على عتبة أحد المنازل متكوّمة على نفسها لتدفئ جسمها الغض النحيل.

وصدف أن كان أمامها في الطرف الآخر من الطريق نافذة مضاءة تبدو من خلالها مدفأة متقدة محشوة بالحطب, وأمام المدفأة طاولة يتحلق حولها أهل المنزل يأكلون من الأطعمة الشهية على ضوء الشموع.

كم شعرت بالغبن والمهانة وقسوة الدنيا تجاهها وتجاه عائلتها, ولأن البرد أبى إلا أن يتسلل لأطرافها لم تجد بدّاً من أن تولع أعواد الثقاب الواحد بعد الآخر لتدفء كفّيها المرتجفتين رغم خوفها الشديد من عقاب والدها لاتلافها الأعواد بدلا من أن تبيعها, لكنها أحست أنها إن لم تفعل هذا فستموت برداً, فثابرت على فعلها هذا وهي حزينة والدموع تذرف من عينيها, فذكرت جدتها التي ماتت منذ سنتين, وهي الوحيدة التي كانت تعطف عليها في حال حزنها الشديد أو حين يغمرها الأسى, فكانت تحنو عليها وتحميها وتحملها إلى فراشها بحنان وعطف ودفء إذا أراد ذووها معاقبتها لتقاعس ما.

وهي على هذا الحال التعب والكئيب بدا لها شبح جدتها وقد ظهر لها من خلال إعيائها كالحلم, إنها جدتها العجوز الطيبة تهمس لها بحب وحنان: (قومي واذهبي إلى أهلك, فهم في انتظارك والحساء ساخن عندهما ولا تخافي من عقابهما فالتوفيق حلّ بهما من كثرة ما ترضّيت عليهما).

فركت الفتاة عينيها مندهشة وتساءلت هل كان هذا حقيقة أم خيال??! لكنها صدقت حدسها فقامت وركضت صوب بيتها والهواء البارد يلفح وجهها لتصل مأواهم لاهثة مستنفذة, ولمفاجأتها وجدت والديها بانتظارها أمام وعاء الحساء الساخن وقطع الخبز الخيّر فبادرتها والدتها: لماذا تأخرت يا ابنتي الحبيبة حتى هذا الوقت من الليل? لقد شُغل بالنا عليك.

- لقد كنت أريد بيع بعض علب الثقاب أكثر فالنهار لم يكن مجدياً بما فيه الكفاية.

فتلقفها والدها بين ساعديه ليخبرها: لا تقلقي يا ابنتي بعد اليوم, لقد توفقت بعمل دائم لي, ولا حاجة لك بعد اليوم للعمل, بل ستبدأين الذهاب إلى المدرسة.

- وعلب الكبريت المتبقية, ماذا أفعل بها??

والدها: دعينا نشعلها واحدة بعد الأخرى هذه الليلة ابتهاجاً بإيجادي العمل الجديد.

قبلت أباها على رأسه, وأحسّت بالدفء الحقيقي في أحضان والديها, ثم تذكّرت جدتها من جديد, لكنها هذه المرة تذكرتها بسرور, وبدأوا يتناولون حساءهم الساخن وهم يضحكون ويمنون النفس بإشعال كل أعواد الثقاب هذه الليلة.

 


 

نبيل أبو حمد