واحة الفن الجميل

واحة الفن الجميل

فنان قهر المرض
هنري دو تولوز لوتريك

وُلد هنري دو تولوز لوتريك في (ألبي) في جنوب فرنسا سنة 1864م, كان من النبلاء, وكان والده ابن عم لوالدته, وهما من أسرتين تتزاوجان منذ أجيال, الشيء الذي أسهم في المأساة التي حلت بحياته من ضعف عظامه وتشوّه جسمه, كما يقال. كان والده الكونت ألفونس دو تولوز لوتريك يهوى ركوب الخيل والصيد, يحب ابنه, يقرّبه إليه ويريده أن يكون على مثاله. عند ولادة هنري, أهداه كتاباً عن الصقور وكتب فيه: (تذكر يا بني أن الحياة في الطبيعة هي الحياة الصحية الوحيدة, وكل شيء يذبل ويموت في وقت قصير إذا حرم من الحرية, الحصان والكلب والصقر سيكونون أصدقاءك الأعزاء ويمكّنونك من نسيان أحزانك). لكن القدر لم يتح للابن إلا سنوات من الطفولة السعيدة قضاها في قصر أمه, وفي المدرسة بين أصدقائه الذين يحبّونه ويستمتعون برؤية رسومه التي تملأ دفاتره, وخصوصا رسوم الكاريكاتير الطريفة للمعلمين والطلاب والحيوانات, كانت أمه قلقة على صحة ابنها الوحيد, فأخرجته من المدرسة ليتابع دروسه الخاصة في البيت. أصيب هنري بمرض ضعف في عظامه, في الرابعة عشرة من عمره تعثر ووقع داخل القصر وكسرت فخذه فوضع في الجبس مدة طويلة, لكن بعد أربعة عشر شهرا, وفيما كان يسير مع أمه, وقع وكسرت فخذه الثانية, وهنا كانت المأساة لأن عظامه لم تشف ولم ينم جسمه, أمضى سنوات من الوحدة والألم لكنه لم يستسلم لليأس, وبتشجيع من والديه وأصدقائه, انصرف كليا للرسم الذي وجد فيه متعة كبيرة, رغم ذلك تابع دراسته, وبعد محاولة أولى فاشلة تقدم ثانية لامتحان البكالوريا ونجح بالحصول عليها. انصرف إلى رسم حركة الأحصنة والطيور للتعويض عن حرمانه من حرية الحركة, وأصبح الفن محور حياته بين أصدقاء يشاركونه المرح ويستمتعون بغرابة رسومه المبتكرة. تعرف بمؤلف موسيقي ومغن وصاحب مجلة اسمه (برووان), ومن خلاله تعرف إلى العالم البوهيمي في مونمارتر التي كانت قرية في ضاحية باريس, مؤلفة من أكواخ وحقول خضراء تعيش فيها الأرانب والدجاج في النهار وتتحول شوارعها في الليل إلى أمكنة يلتقي فيها اللصوص والمجرمون الهاربون من الشرطة, لكن تلك القرية سرعان ما تحوّلت إلى مركز للمقاهي والمطاعم والملاهي الليلية ومنها ملهى (المولان روج) الشهير الذي كان للفنان فيه مكان محدد يجلس فيه دوما ليرسم الراقصات بسرعة فائقة, مركزا على حركاتهن وتعابير وجوههن من تعب وحزن وراء الابتسامة المصطنعة, ثم يعود ويتابع العمل في الاستديو, وقد خلد تلك الراقصات في لوحاته الشهيرة, ثم انصرف لرسم أفراد فرقة الكوميديا الفرنسية والأوبرا, كما رسم طبيباً شهيرا وهو يجري عملية جراحية, بالإضافة إلى قاعات المحاكم, اشتهر كثيرا برسم الملصقات الجميلة, وبذلك ترك تأثيرا كبيرا في فن الجرافيك.

كان بشعا وقد وصفته إحـــدى النساء بأن له رأس دمية كبيرا على جسم قزم وله أنف يكفي لرأسين, لكنه لــم يهتــم بذلك, بل أخذ يوقع بطاقاته ولوائح الطعام برسم ظل لجسمه المشوّه.
كان في الواحدة والأربعين من عمره عندما أصيب بالشلل لكنه أصرّ على مواصلة الرسم, فرفع على سلم ليكمل لوحته الأخيرة, وبعد بضعة أيام توفي بين ذراعي أمه.

كانت حياته القصيرة مليئة بالألم والإعاقة وبالإرادة لقهرهما, أما أعماله فبقيت خالدة تحتل متحفه الخاص في مدينة (ألبي) وفي العديد من أكبر متاحف العالم, وتشهد على عبقرية ذلك الفنان الكبير.

 


 

نهى طبارة