بيتنا الأرض

بيتنا الأرض

خطأ واحد في عبور الغابة

انظروا إلى الرجل في الصورة.

إنه يتقدم باطمئنان على ممشى مصبوب من الاسمنت يخترق الغابة. غابة حقيقية تحيط بشلالات فيكتوريا في زيمبابوي بمنطقة الجنوب الإفريقي.

غابة حقيقية?

نعم, غابة حقيقية, بها الكثير من قرود (البابون) التي تعيش في قطعان. مثل عائلات ضخمة يضم القطيع الواحد منها ثلاثمائة قرد أحيانا. وما دامت هناك قرود فعلينا أن نتوقع وجود النمور والأسود والفهود التي تعتبر القرود وجبة مفضلة لديها. يمكن أن نجد أيضا الغزلان والدجاج البري وكثيرا من الطيور الصغيرة.

طبعا لن يعلق بأذهانكم إلا الأسود والنمور والفهود. وستسألون:

ألا يخاف الرجل ظهور حيوان منها يفترسه بأنيابه الحادة الطويلة... ويمزقه بمخالبه القاطعة?

وحتى أجيب عن هذا السؤال لا بد أن أعترف لكم. فالرجل عابر الغابة الذي يظهر في الصورة هو أنا كاتب هذه السطور. أما عن الخوف فقد كان موجودا بالطبع. لكن عابر الغابة لا بد أن يسيطر على خوفه. لأنه إذا خاف كثيرا ستشم الحيوانات المفترسة رائحة هورمون الأدرينالين الذي يزيد في دمه وتظهر رائحته على الجلد. الخوف كان موجودا لكنه لم يصل إلى درجة الهلع. ثم إن هناك أمورا أخرى لا بد أن يحرص عليها عابر الغابة حتى ينجو من الوقوع بين أنياب الوحوش ومخالبها.

أولا: يرتدي ثيابا ذات ألوان هادئة مثل الكاكي والبني الفاتح والأبيض السّكري والرمادي. وأن يكون حذاؤه طريا لا تصدر عنه أصوات لافتة وألا يكون فاقع اللون أيضا.

ثانيا: يمشي في هدوء بخطوات منتظمة حتى لو اضطر للإسراع. وألا يلتفت أو يرفع رأسه كثيرا حتى لا تقع عيناه على عينيّ حيوان يصادفه فالنظر في عيون الحيوانات يثير هياجها. وهذه المشية يسمونها (مشية العسكري الإنجليزي في ايرلندا). وأنا أسميها مشية الرحالة في غابات إفريقيا.

ثالثاً: أن يكتم سعاله وعطساته وإن كان يتحادث مع رفيق له فيفعل ذلك همسا وبصوت خافت جدا ولا ينبغي أن يحرك يديه كثيرا.

رابعا: ألاّ يتأخر داخل الغابة حتى حلول الظلام. لأن الحيوانات الكبيرة المفترسة مثل الأسود والنمور والفهود تنشط للبحث عن فرائسها في الليل.

خامسا:?!
وآه من خامسا هذه التي نسيتها في غابة شلالات فيكتوريا فدفعت ثمن نسيانها.

إن البند الخامس من أصول المشي في الغابة يؤكد على عدم وضع أي عطور. لكنني قبل أن أخرج من غرفتي في فندق شلالات فيكتوريا المطلة على الغابة نسيت هذا البند بحكم التعود. ورششت بخة من عطر الكولونيا على ذقني بعد أن حلقتها.

ويا لطيف..

اجتزت الكيلو مترين اللذين يخترقان الغابة من الفندق حتى مشارف الشلالات. قابلني قطيع من قرود البابون فنظرت إليها خلسة من تحت حافة القبعة دون أن أرفع رأسي فلم تكترث بمروري. رأيت ظبيا مرقطا جميلا فأبطأت خطواتي المنتظمة لأمعن النظر إلى جماله الوديع من تحت حافة القبعة دون أن ألتفت. واستمر الظبي يلتهم العشب الأخضر في ظلال الشجر بسلام. وفجأة.

فجأة سمعت طنينا أخذ يقترب ويعلو وتبينت سربا من النحل البري يتجه نحو رأسي. جريت. والحمدلله أنني كنت قد وصلت إلى النهاية الآمنة التي يكثر بها حراس الغابة عند الشلالات فلم ألفت نظر أسد هاجع أو ذئب مختبئ بين الأشجار.

لقد جذبت رائحة عطر (الكولونيا) سرب النحل البري الذي جعله رذاذ ماء الشلال يتراجع ويتركني في آخر لحظة. إلا نحلة.. نحلة عنيدة وصلت إلى قفاي ولسعتني لسعة جعلتني أصرخ من شدة الألم وأكشف رقبتي وأحني رأسي حتى يرطب رذاذ الشلال جلد قفاي ويخفف آلام القرصة.

 


 

محمد المخزنجي