الأميرة التي تصدق كل ما تسمع

الأميرة التي تصدق كل ما تسمع

كان لأحد الملوك فيما مضى من الزمان ابنة وحيدة, صغيرة وجميلة وذات قلب عطوف. لكن لسوء الحظ كان بها عيب خطير, فهي دائما تصدق كل شيء يقال لها. وكان الملك في غاية الحزن والقلق, فابنته الأميرة سترث العرش من بعده, وتصير ملكة على البلاد, والدنيا تموج بالزيف والأكاذيب, فأي خراب سوف يصيب المملكة عندما تحكمها ملكة لا تستطيع أن تفرق بين الخطأ والصواب, ولا تعرف الصدق من الكذب?

بذل الملك كل ما في وسعه ليصلح من عيب الأميرة بلا جدوى, وأعلن في النهاية أنه سيزوّجها بمن يجعلها تقول: (هذه أكذوبة), وسيعينه حاكما لنصف مملكته, فتسابق أفراد الحاشية للفوز بالأميرة الجميلة ونصف المملكة, فما أسهل تحقيق الشرط الذي وضعه الملك! هكذا ظنوا جميعا, لخبرتهم الطويلة في فن الكذب والخداع وتزييف الحقيقة, وراحوا يتنافسون في رواية الأكاذيب التي تخجل من تصديقها خادمة صغيرة في القصر, ولكن ولا كلمة اعتراض واحدة على ما يقولون صدرت عن الأميرة. فعندما قال لها أمير ذائع الصيت: (القمر مصنوع من الجبن الأخضر), ردت عليه في عذوبة: (كم أتمناه على الغداء... مقطعا إلى شرائح رقيقة طبعا), وعندما قال لها دوق ذو مكانة مرموقة: (أستطيع أن أحفظ اتزاني فوق رأس دبوس), قالت له: (بهلوان رائع حقا!), وهكذا فشل رجال البلاط, وجاء دور أبناء التجار الأثرياء وكبار الأعيان, ومع أنهم كانوا أكثر إجادة لفن التلفيق والكذب, إلا أن أحدا منهم لم ينجح في أن يظفر من الأميرة بالعبارة التي تحقق أحلامه: (هذه أكذوبة).

وذاع الخبر في أنحاء المملكة, ووصل إلى قرية صغيرة على أطرافها, حيث سمع به فتى وسيم واسع الخيال اسمه كلاوس, هو الابن الوحيد لفلاح فقير, فقال لأبيه في فرحة: (أنا الفتى المناسب تماما للأميرة) وارتدى أحسن ما لديه من ملابس, وودع أباه, وانطلق إلى قصر الملك, وهناك قابله الملك, وسأله: (كيف لفتى مثلك يعيش بعيدا عن المدينة, ولا يفهم من الحياة غير القليل, أن يميز الصدق من الكذب?!).

أجابه كلاوس في ثقة: (ما أمهرنا نحن أبناء الريف! أنا عن نفسي مشهور بالمبالغة والتهويل وابتكار الأحاديث العجيبة).

وأعجب الملك بجرأته واعتزازه بنفسه فقال له: (لك أن تحاول, وإن كنت لا أتوقع لقروي مثلك أن ينجح فيما أخفق فيه رجال الحاشية وأبناء التجار والأعيان).

التقى كلاوس الأميرة, ومشيا معاً في حديقة مطبخ القصر المزروعة بالكرنب, وتوقف كلاوس أمام إحدى الكرنبات وقال: (كرنبة كبيرة). قالت الأميرة باسمه: (بلا شك, فالملك يطعم أفواها كثيرة). قال الفتى: (ولكن هذا الكرنب لا شيء مقارنة بالكرنب الذي يزرعه أبي. فذات يوم كنا نقيم حظيرة جديدة للماشية, وكان يعمل فيها ستة عشر نجارا, وفجأة هبّت عاصفة شديدة, وأمطرت السماء بغزارة, وجرى النجارون واحتموا بورقة كرنبة في حقل أبي, وبعد مرور وقت طويل, ثقب أحدهم هذه الورقة بسكينه, ليرى إن كانت انتهت العاصفة أم لا, وإذا بماء كثير يتدفق منها وأغرق أولئك المساكين في الحال). قالت الأميرة: (كرنبة هائلة الحجم فعلاً!). وبذلك انتهى موضوع الكرنب.

لم ييأس كلاوس وواصل سيره مع الأميرة وهو يفكر, ثم أشار إلى حظيرة القصر وقال: (حظيرة واسعة.. ومتينة البناء أيضاَ). قالت الأميرة: (قصر ملكي لا تليق به إلا حظيرة ملكية). قال كلاوس مفاخراً: (وماذا تكون هذه الحظيرة بجانب حظيرة أبي? فحظيرتنا واسعة جدا, إذا دخلت من بابها عجل صغير, لظل يمشي سنوات وسنوات حتى يخرج من الباب المقابل, عندئذ تكون قد صارت بقرة عجوزا جدا, لا تنفع في شيء غير صناعة الأحذية). قالت الأميرة بلطف: (حظيرة واسعة حقا). وهكذا انتهى الكلام عن الحظيرة.

وصحب كلاوس الأميرة إلى المرعى حيث ترعى خراف الملك وقال: (خراف سمينة, وغزيرة الصوف كذلك). قالت الأميرة: (نعم... ما أجدر الملك بنوم دافئ في ليالي الشتاء!). قال الفتى: (لكنها لا تعد خرافاً إذا قورنت بما عند والدي من خراف. فالخروف الواحد من خراف أبي نستأجر له ستة عشر حطابا ليجزوا صوفه بالفؤوس, ويأخذ ذلك منهم شهراً بتمامه ويوما). قالت الأميرة: (خراف ضخمة فعلا!). وانتهت بذلك حكاية الخراف. وكان من الممكن أن تنتهي معها حكاية كلاوس والأميرة, لو أنه كان واحداً من أفراد الحاشية أو أبناء التجار, ولكن ابن الفلاح لا يستسلم لليأس بسهولة.

وأمام حظيرة الدجاج الملكية توقف كلاوس وقال: (أنتم تربّون دجاجاً رائعاًً, لونه كبياض الثلج, ويقاقي بصوت جميل). قالت الأميرة: (لابد أن لدى دجاج الملك ما يدعوه للتباهي والسرور), قال كلاوس: (لكنه ليس بأفضل من دجاج أبي, فدجاجنا له ريش صلب طويل, يصلح لصنع أشرعة السفن, وبيضه كبير الحجم, بضع بيضات منه تكفي لإطعام أهل القرية كلهم, وإذا قطعنا بيضة بالمنشار إلى نصفين, صار لدينا قاربان صالحان للإبحار ومقاومة العواصف والأمواج, ولاشيء يوقف دجاجنا عن وضع البيض, ونحصل منه كل يوم على حمولة ألف عربة كبيرة, وإذا لم نفتح عيوننا جيدا, فقد يتكوم البيض, ويرتفع مثل جدار قلعة وأحياناً أعلى. فذات مرة, أخذت كومة البيض تعلو, وكنت على قمتها حين غلبني النعاس, وعندما صحوت وجدتني قد وصلت إلى القمر, فشرعت أتسلق الكومة هابطاَ, فوقعت فجأة من تحتي, وتبعثرت في كل اتجاه, فتعلقت بالقمر, ولولا أني ولد ذكي لمّاح لبقيت معلقاَ هكذا, ولكني وجدت خيط عنكبوت بشجرة, فاستخدمته كحبل, وجعلت أهبط عليه رويدا رويدا... ولسوء حظي انتهى الخيط قبل أن أدرك الأرض, فقفزت الأميال القليلة الباقية, لأنزل رأساً وسط مهرجان كبير, يجمعون فيه التبرعات للفقراء, وهناك رأيت أباك الملك, وكان يضع طرطوراً على رأسه, وتبرع بقطعة واحدة فقط من العملة, ذلك العجوز الأناني الشحيح).

صرخت الأميرة: (اسكت! هذه أكذوبة!). واحمر وجهها من الغضب, وصاحت في كبرياء: (أقل ما يضع أبي في المناسبات واحد من تيجانه الثمينة, وهو ليس أنانياً أو بخيلاً كما تزعم, إنه مستعد لاقتسام كسرة الخبز مع الفقراء).

قال كلاوس ابن الفلاح للأميرة: (هو كذلك.. لا يهمني هذا كثيرا... لقد جعلتك تقولين: هذه أكذوبة... وسأطلب إلى الملك أن يفي بما وعد).

ولم تنكر الأميرة ما حدث, لأنه الحقيقة, ولأنها أعجبت ببراعة كلاوس ووسامته, وكانت سعيدة عندما زفت إليه في احتفال فخم.

ولم تعد الأميرة تصدق كل ما تسمع, على العكس, صارت جادّة أكثر من اللازم, فلا تسمح لأحد بأن يخبرها بغير الحقيقة, ولم يعد بإمكان كلاوس أو أي شخص آخر أن يسرف في الخيال أو يقول الأكاذيب, وكل هذا صحيح جدا, وإن جعل الحياة مملة في بعض الأحيان, تدفع كلاوس للتثاؤب, وذات مرة فتح فمه على اتساعه فابتلع منزلا بكامله ومجموعة أشياء من حوله, وتلك حكاية أخرى!

 


 

حسن صبري